الشرق الاوسطرئيسيمقالات رأي

صالح.. عقود من المناورات تنتهي برصاصة

صنعاء-

بعد يومين فقط من دعوته للانتفاضة على الحوثيين، وضع الحلفاء السابقون نهاية لحياة الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح برصاصة في الرأس، ليرسموا بالدم صورة صادمة لمصير أطول زعماء اليمن حكما، وأحد أكثر زعماء المنطقة تقلبا ومناورة، حتى بعد اعتزاله الحكم.

وبعدما نفى قادة حزبه (المؤتمر الشعبي العام) نبأ مقتله الصادم في البداية وأصروا على أن صالح ما زال يقود الاشتباكات ضد الحوثيين في العاصمة، أقر الحزب بعد ساعات بصحة الصور التي تظهر الإصابة القاتلة في رأس صالح، وقالت وزارة الداخلية التابعة للحوثيين إنها أنهت أزمة “مليشيا الخيانة” وقتلت “زعيم الخيانة” وعددا من عناصره.

هذه النهاية الدراماتيكية تستدعي تسليط الضوء على قصة صعود زعيم من قعر المجتمع إلى قمته، وما صاحب مسيرته الممتدة لنحو 40 عاما من التحالفات والانقلابات التي رسمت تاريخ اليمن المعاصر.

قصة الصعود

بدأ صالح -المولود عام 1947- حياته بالعمل راعيا للأغنام، وترك تعليمه الأولي في كتّاب القرية ليلتحق بالجيش في سن السادسة عشرة، وبدأ حياته العسكرية ثائرا ضد الملكية في ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1963، كما صمد مع زملائه في حصار السبعين يوما في صنعاء حتى أعلنوا النصر، ورقي إلى رتبة ملازم.

تدرج صالح في الجيش في الستينات والسبعينيات، ثم صعد إلى قمة الهرم في ظروف غامضة ما زالت تثير الجدل، حيث قُتل رئيس الجمهورية إبراهيم الحمدي في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1979، ثم قُتل خلفه أحمد الغشمي خلال أقل من عام، لينضم صالح في غضون شهر إلى مجلس الرئاسة الذي انتخبه بالإجماع رئيسا للجمهورية وقائدا أعلى لقواتها المسلحة.

تمكن الرئيس الشاب في سن الثامنة والثلاثين من إحكام السيطرة على الدولة والجيش معا، فبعد فشل مجموعة من الضباط الناصريين المدعومين من ليبيا بالانقلاب عليه، أسند صالح إدارة الجيش والمؤسسات الأمنية إلى أسرته وعدد من وجهاء القبائل الذين التفوا حوله.

وفي 1990 أصبح صالح أول رئيس لليمن الموحد بعد قيام الوحدة بين شطري البلاد الجنوبي والشمالي، ونجح مجددا في الإفلات من سلسلة اغتيالات وتوترات عسكرية، كما نجح في قيادة الحرب ضد نائبه علي سالم البيض الذي كان رئيسا للجنوب قبل الوحدة، ثم بسط صالح سيطرته مجددا عام 1994على اليمن كله بإعادة الوحدة التي كان الجنوب قد تراجع عنها.

وعلى شاكلة زعماء عدة، عّدل صالح الدستور لصالحه عام 2003، وجدد بذلك حكمه لفترة رئاسة جديدة رغم إعلانه في البداية عدم عزمه الترشح.

وعندما برزت أولى بوادر التمرد على يد بدر الدين الحوثي في صعدة (شمال) عام 2004، سارع الرئيس صالح لمواجهته بالقوة مستعينا بتحالفاته القبلية، وخاض الطرفان منذ ذلك التاريخ ست حروب انتهت في بدايات 2010 بعد مساندة الجيش السعودي للقوات الحكومية.

الثورة والمناورة

وبعد أكثر من ثلاثة عقود من الصراعات، بدا أن الأمر استتب بالفعل لصالح وأسرته وتحالفاته القبلية المتشابكة، لكن اليمن الذي أنهكته القلاقل لم يكن قادرا على التعافي اقتصاديا في عالم متسارع النمو، ومع أن معدل نمو الناتج المحلي لعام 2011 كان يبلغ حوالي 10% كان نحو نصف اليمنيين يعيشون تحت خط الفقر، كما يعاني أكثر من ثلثهم من البطالة، بينما تحتل حكومة صالح المرتبة 146 من بين 178 دولة في تقرير منظمة الشفافية العالمية المعني بالفساد.

لذلك وجد الجيل الصاعد في نسمات الربيع العربي التي بدأت بالهبوب من تونس ومصر فرصة للمطالبة بالتغيير، وبشكل متسارع ومفاجئ عمّت المظاهرات والاعتصامات مختلف مدن البلاد مطالبة بإسقاط صالح وشبكة السلطة المحيطة به. ورغم القمع الدموي استمرت، وتعرض صالح نفسه لمحاولة اغتيال في 3 يونيو/حزيران 2011 بتفجير مسجد دار الرئاسة.

نجح صالح مجددا في الإفلات من قبضة الموت، وتلقى العلاج في السعودية، وبدا أنه سيحظى بفرصة للجوء حيث قدم له السعوديون ضمن إطار “المبادرة الخليجية” عرضا بالحصانة من الملاحقة القانونية على كل الانتهاكات المرتكبة طيلة 33 سنة من الحكم مقابل التنحي.

وفي 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2011 وقع صالح على اتفاق المبادرة الخليجية بعد مماطلة، وتنازل عن السلطة لنائبه عبد ربه منصور هادي.

ورغم اعتراض الكثير من الناشطين والمعارضين على الحصانة، ولا سيما اعتراض منظمة هيومن رايتس ووتش ومطالبتها بمحاكمة صالح على “مجزرة جمعة الكرامة” التي قتل فيها 58 متظاهرا بصنعاء في 18 مارس/آذار 2011، كان إنهاء الحرب يمثل على الأقل فرصة لليمنيين كي يتنفسوا الصعداء ويتطلعوا إلى مستقبل جديد بلا فساد.

التنحي والحصانة

تولى هادي السلطة في 27 فبراير/شباط 2012، ووجد على مكتبه ملفات صعبة لإدارة بلد منهك اقتصاديا وأمنيا، فالحراك الجنوبي يواصل التصعيد للانفصال، والحوثيون يطلقون تهديداتهم في الشمال، بينما تواصل الطائرات الأميركية طلعاتها لملاحقة تنظيم القاعدة في مناطق متفرقة، ومع هذا كله تهبط مؤشرات الاقتصاد إلى الحضيض.

وبعد نحو سنتين ونصف، عاد اسم صالح إلى الظهور مجددا، فالحرس الجمهوري لم يكن ليتخلى عن الولاء لقائده رغم تنحيه، وتبين أن محاولات هادي لهيكلة الجيش والحرس لم تحقق الكثير، فتمرد الحرس على الجيش وسيطر عليه.

تبين أيضا أن تحالفات صالح القبلية وجدت في ظل الحصانة فرصة لإعادة البلاد إلى قبضته بسرعة غير متوقعة، وبينما كان هادي يعوّل على مؤتمر الحوار الوطني اليمني لرأب الصدع كانت قوات صالح تعقد التحالفات مع الحوثيين الذين كانوا من ألد أعدائه في السابق.

وفي سبتمبر/أيلول 2014، سيطر الحلف الجديد -المتشكل من قوات صالح وقوات قبلية موالية والحوثيين المدعومين مباشرة من إيران- على صنعاء، ثم على مدن رئيسية من دون مقاومة تذكر، وخلال أيام معدودة اكتمل الانقلاب على السلطة وشكل الحوثيون “لجنة ثورية” لإدارة البلاد، ووضعوا الرئيس هادي تحت الإقامة الجبرية وأرغموه على الاستقالة.

هرب هادي وعدد من أعضاء حكومته إلى السعودية، ومع أن الحوثيين كانوا في الواجهة آنذاك، كان صالح يمارس هوايته في عقد التحالفات والبحث عن فرص المساومة دون أن يتصدر المشهد.

وعندما أعلنت السعودية بدء عملية عاصفة الحزم لاستعادة الشرعية في اليمن بدعم خليجي ودولي ناشد صالح دول التحالف وقف القصف مؤكدا أنه لن يعود للسلطة، لكن التحالف قصف منزله في مايو/أيار 2015 ما دفعه للتوعد وإعلان الانحياز التام للحوثيين.

العودة والقتال

ورغم القتال في جبهة واحدة طوال ثلاث سنوات، وتولي الحكم بين الحوثيين وحزب المؤتمر، فإن أنباء عدة تواترت عن وجود خلافات خفية بين الطرفين، ومنها إيعاز صالح لأنصاره بالتحرك إعلاميا ضد الحوثيين بعدما أشارت تقارير إلى نيتهم اغتياله، كما أشار مراقبون آنذاك إلى سعي صالح للتخلص من تحالفه مع الحوثيين الذين باتوا أشد قوة منه بفضل الدعم الإيراني.

ويوم السبت الماضي، قطع صالح الشك باليقين ودعا في تصريحات تلفزيونية إلى انتفاضة شاملة ضد الحوثيين، كما أعلن استعداده للتفاوض مع السعودية، فيما بدا أنه انقلاب جديد للرئيس المخلوع الذي أتقن لعبة المناورات نحو أربعة عقود.

اندلعت اشتباكات عنيفة إثر هذه الدعوة، وردّ الحوثيون باتهام الحليف السابق بالخيانة والتواطؤ مع “العدو”، وادّعوا أن انشقاق صالح لم يكن مفاجئا، على اعتبار أنه دأب على “الطعن في الظهر” سابقا.

وبينما كانت بوادر ذوبان الجليد تتلمس طريقها في الرياض، أدرك الحوثيون أن الحل يجب أن يكون استئصاليا ومباغتا، فلم يمهلوه أكثر من يومين حتى أعلنوا مقتله أثناء محاولته الخروج بموكب أمني من صنعاء إلى مسقط رأسه في سنحان جنوب العاصمة، حيث أنزلوه من سيارته وأعدموه برصاصة في الرأس، حسب مصادر في حزب المؤتمر.

انضم صالح بذلك إلى قائمة من الزعماء الذين انتهت حياتهم بالقتل، وكان آخرهم الزعيم الليبي معمر القذافي المقتول في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2011، وفي ظهور صور جثته على الشاشات العالمية منقولة بكاميرات الهواتف النقالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى