الشرق الاوسطرئيسي

التجارة بين مصر وتركيا مستمرة وسط التوترات

بقيت العلاقات الاقتصادية بين مصر وتركيا متواصلة على الرغم من الخلافات السياسية بينهما لأن قطع العلاقات كان ليلحق أضرارًا بالغة بالكثير من المصالح على الجانبين.

وقطعت تركيا ومصر العلاقات الدبلوماسية بينهما في العام 2013، في أعقاب الانتقادات اللاذعة التي وجّهتها أنقرة إلى القاهرة بعد الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي الذي حظي بدعم جماعة الإخوان المسلمين.

لكن على الرغم من التوترات التي شابت العلاقات السياسية بين الدولتَين، واصل حجم التبادلات التجارية نموّه المطّرد مسجّلًا معدّلات مرتفعة للغاية.

أبرمت مصر اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا في العام 2005، ودخلت حيز التنفيذ في العام 2007، وهي لا تزال قائمة حتى اليوم على الرغم من رياح الخلافات السياسية العاتية.

فقد ازداد مجموع التبادلات التجارية بين البلدَين ثلاثة أضعاف تقريبًا بين العام 2007 والعام 2020، أي من 4.42 مليار دولار إلى 11.14 مليارًا، ما يظهر بأن الجانبَين اتفقا ضمنيًا على إبقاء تبادلاتهما الاقتصادية في منأى عن التجاذبات السياسة.

كان من المنطقي لأنقرة أن ترغب في الحفاظ على اتفاقية التجارة الحرة، نظرًا إلى تحقيقها بشكل مستمر فائضًا في ميزانها التجاري مع مصر منذ العام 2007.

لكن، ما كان دافع القاهرة في الحفاظ عليها؟ الجواب هو التحسّن النسبي الذي شهده موقع مصر التجاري بالنسبة إلى تركيا بعد العام 2013، إذ تراجع العجز في الميزان التجاري المصري وتغيّرت بنية الصادرات المصرية من خلال الزيادة المطّردة للسلع المصنّعة.

لذا كان خروج مصر من اتفاقية التجارة الحرة ليضرّ بالمصنّعين المصريين ويحرمهم من الوصول إلى أسواق خارجية مهمة في وقتٍ كانت تعاني البلاد نقصًا حادًّا في العملات الصعبة.

أما العامل الآخر الذي ساهم في الإبقاء على اتفاقية التجارة الحرة فهو أن العلاقات المصرية التركية سلكت منحًى قويًا نحو التجارة داخل القطاع الصناعي الواحد، أو تبادل المنتجات المستخدمة في القطاع الصناعي نفسه.

تُعتبر التجارة داخل القطاع الصناعي الواحد في الكثير من الأحيان من المؤشّرات الدالّة على وجود تقدّم نسبي في الاقتصادات الأطراف في التبادل التجاري، لأنها ترتكز على تبادل الجانبَين السلع المصنّعة بدلًا من المواد الخام أو المنتجات الأولية.

وهذا يعني أن العلاقة الاقتصادية تشمل عددًا أكبر من المنتجين والعمّال والمستثمرين والمستهلكين والموزّعين، ما يطرح السؤال حول حجم التكاليف المباشرة وغير المباشرة التي قد تنجم عن عرقلة التفاعل القائم بين كل هذه الأطراف.

مفارقة في العلاقات المصرية التركية

نتيجةً للخلافات القوية التي نشبت على خلفية تنحية مرسي، عمدت مصر في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 إلى طرد السفير التركي في القاهرة وخفض مستوى العلاقات الدبلوماسية مع أنقرة، ما دفع الحكومة التركية إلى الرد بالمثل.

وسرعان ما تدهورت العلاقات السياسية أكثر حين استضافت تركيا شخصيات من المعارضة المصرية في المنفى، ولا سيما أعضاء في جماعة الإخوان المسلمين.

أسفرت هذه التشنجات عن تداعيات إقليمية، إذ أصبحت مصر وتركيا جزءًا من تحالفات أوسع نطاقًا تدعم أطرافًا متنازعة من الصراع الليبي.

وفي العام 2019، لوّحت مصر بالتدخل عسكريًا في حال تقدّمت القوات الموالية لتركيا باتجاه مدينة سرت الواقعة في وسط ليبيا، فوقفت مصر وتركيا على أعتاب مواجهة عسكرية.

كذلك، ساهم عاملٌ آخر في احتدام الوضع، وهو اشتعال شرارة التوترات في منطقة شرق البحر المتوسط عقب اكتشاف حقول الغاز الطبيعي البحري في فترة 2014-2015.

وفي شهر أيلول/سبتمبر 2020، اجتمعت مصر مع كلٍّ من قبرص واليونان وإسرائيل وإيطاليا والأردن وفلسطين لإنشاء منتدى غاز شرق المتوسط، الذي جرى فيه استبعاد تركيا.

لكن بحلول شهر أيار/مايو 2021، حاولت مصر وتركيا قلب هذا المسار والبدء بمعالجة خلافاتهما من أجل تطبيع علاقاتهما. ولا يزال من المبكر جدًّا الحكم على مدى نجاح هذا المسعى.

وعلى الرغم من تدهور العلاقات السياسية بين مصر وتركيا، ازدهرت العلاقات الاقتصادية بينهما خلال تلك الفترة.

ولم يرتفع الحجم الكلي للتجارة الثنائية فحسب، بل تبدّلت أيضًا بنية التبادلات التجارية بين البلدَين. وقد انطبق ذلك خصوصًا على مصر التي يُعدّ اقتصادها أصغر حجمًا من الاقتصاد التركي.

وخلال الفترة الممتدة بين 2005 و2012، شكّلت الصادرات المصرية إلى تركيا 3.54 في المئة من مجموع الصادرات المصرية.

وقد تضاعفت هذه النسبة تقريبًا لتبلغ 6.2 في المئة في فترة 2013-2020 (وفقًا لحسابات المؤلّف)، على الرغم من تنامي الخلافات السياسية بين الجانبَين.

وبالمثل، ارتفعت الصادرات التركية إلى مصر من معدّل 3.37 في المئة من مجموع الواردات المصرية في فترة 2005-2012 إلى 4.47 في المئة في فترة 2013-2020.

وفي العام 2020، احتلّت تركيا المرتبة الثالثة في قائمة الدول المستوردة للصادرات المصرية، والمرتبة الخامسة في قائمة الدول المصدّرة إلى مصر. وفي السنة ذاتها، احتلّت مصر المرتبة الرابعة عشرة في قائمة الدول المستوردة للسلع التركية.

خلال فترة انقطاع العلاقات، رفضت مصر وتركيا تجديد اتفاقية واحدة لا غير في العام 2015، وهي اتفاقية العبور التجاري التي تُعتبر ثانوية ولم تؤثّر بشكل يُذكر على حجم التبادل التجاري بين البلدَين.

عدا ذلك، بقي الإطار القانوني والتنظيمي الذي يحكم تبادلاتهما التجارية والاستثمارية على حاله تقريبًا.

يشي ذلك بأن اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، على خلاف اتفاقية العبور التجاري، مهمة جدًّا بحيث لا يمكن الاعتراض عليها.

من المُلفت أن دراسةً أعدّتها أستاذة في الاقتصاد في جامعة القاهرة، تُعتبر مقرّبة من دوائر الحكم المصرية، توقّعت أن يتم تجديد اتفاقية التجارة الحرة في العام 2021، بغض النظر عن العلاقات السياسية بين البلدَين. لكن هذا الأمر لم يحدث حتى الآن.

اتفاقية أكبر من أن تُلغى

يُعتبر التحسُّن النسبي في موقع مصر التجاري مقابل تركيا بعد العام 2013 العامل الأساسي الذي حمى اتفاقية التجارة الحرة المصرية التركية من الخلافات السياسية بين القاهرة وأنقرة.

يُضاف إلى ذلك أن بنية التجارة بين البلدَين، والتي كانت تستند إلى تبادل السلع المصنّعة، ساهمت في تسليط الضوء على منافع استمرار العلاقات الاقتصادية.

وبينما تسجّل تركيا فائضًا في ميزانها التجاري مع مصر منذ العام 2007، تراجع العجز التجاري المصري بشكل كبير بعد العام 2013.

ففيما بلغ معدل نمو العجز التجاري نسبة مرتفعة تعادل 252 في المئة خلال الفترة ما بين 2008 و2012، تراجع إلى 84 في المئة بين العامَين 2013 و2020.

ويُعزى سبب ذلك في الدرجة الأولى إلى انخفاض قيمة الجنيه المصري في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، إثر قرار تعويم العملة بموجب شروط الاتفاق الذي أبرمته مصر مع صندوق النقد الدولي. وأدّى ذلك إلى تقلّص حجم الصادرات التركية إلى مصر بنسبة 17 في المئة بين العامَين 2017 و2020، إضافةً إلى ازدياد حجم الصادرات المصرية، إذ باتت أرخص ثمنًا نسبيًا.

لكن منذ العام 2018، عادت الواردات التركية إلى مصر لترتفع من جديد بسبب استقرار الجنيه المصري النسبي وضعف الليرة التركية المتزايد.

منذ العام 2007، ارتفعت الصادرات المصرية إلى تركيا بمعدل 10 في المئة سنويًا، مقارنةً مع نمو سنوي بنسبة 4 في المئة في الصادرات التركية إلى مصر.

علاوةً على ذلك، فاق ارتفاع حجم الصادرات المصرية خلال تلك الفترة معدل نمو إجمالي التبادلات التجارية بين البلدَين ما يشير إلى أن موقع مصر شهد نسبيًا تحسُّنًا مستمرًا على الرغم من العجز الكبير الذي سجلّه ميزانها التجاري في بادئ الأمر لصالح تركيا.

وبين العامَين 2016 و2020، تنامى حجم الصادرات المصرية إلى تركيا بمعدل سنوي بلغ 7 في المئة، مقارنةً مع الواردات التركية إلى مصر التي ارتفعت بمعدل 2 في المئة.

وشكّل ذلك حافزًا للنظام المصري كي يحافظ على اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، على الرغم من التشنجات الجيوسياسية المتنامية.

في هذا الإطار، عبّر صنّاع السياسات الاقتصادية في مصر عن استحالة إلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا خوفًا من تعطيل التدفقات التجارية والاستثمارية، وما يترافق معه من خسائر قد يتكبّدها الاقتصاد المصري، ولا سيما قطاع التصدير.

ويفسّر ذلك سبب عدم استجابة الحكومة للمطالب النيابية الداعية إلى إلغاء اتفاقية التجارة الحرة.

إضافةً إلى ذلك، ثمّة سبب آخر دفع مصر إلى الحفاظ على اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا، وهو تركيبة صادراتها إلى أنقرة.

ففي فترة لاحقة من العام 2020، شكّلت السلع المصنّعة ما نسبته 59 في المئة من إجمالي التبادلات التجارية. وباتت تركيا وجهة أساسية لصادرات مصر من غير الوقود، فيما بذلت القاهرة جهودًا حثيثة لتنويع صادراتها بعيدًا عن النفط والغاز الطبيعي.

فهي سعت، منذ الانخفاض الذي شهدته أسعار النفط عالميًا في العام 2014، إلى زيادة صادراتها من السلع المصنّعة.

وبالتالي، كان ليترتب على إلغاء اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا عواقب وخيمة على المصنّعين المصريين، ما يحرمهم من أسواق أجنبية مهمة في فترة حرجة.

بعد سنوات قليلة فقط من تسلّم القيادة المصرية الجديدة زمام السلطة في تموز/يوليو 2013، واجهت الحكومة فجوة تمويلية ضخمة قُدّرت بنحو 20 مليار دولار.

وتراجع النشاط السياحي وانخفض صافي الاستثمار الأجنبي المباشر بسبب المخاطر الأمنية والاضطرابات السياسية بعد ثورة كانون الثاني/يناير 2011.

وخلال الفترة نفسها، ارتفع الدين الخارجي لمصر من 33.7 مليار دولار في العام 2010 إلى 79 مليارًا في تموز/يوليو 2017، ثم إلى 92.6 مليارًا في العام 2018. لذا، كانت زيادة الصادرات المصرية ضرورية لتحقيق إيرادات بالعملة الصعبة.

علاوةً على ذلك، كانت هذه الزيادة أساسية أيضًا لدفع عجلة التعافي الاقتصادي الذي من شأنه تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي المطلوبة لتلبية شروط الاقتراض في أسواق رأس المال الدولية.

ويصحّ ذلك على وجه الخصوص عند النظر إلى ارتفاع نسبة خدمة الدين الخارجي إلى عائدات التصدير من 6 في المئة في العام 2010 إلى حوالى 19 في المئة في العام 2016، وهي نسبة مرتفعة لم يشهد لها مثيل منذ العام 1994، في أعقاب العملية الضخمة لتخفيف أعباء الديون في أوائل تسعينيات القرن المنصرم.

إضافةً إلى حجم الصادرات، تسهم تركيبة الصادرات المصرية إلى تركيا في الحفاظ على اتفاقية التجارة الحرة.

فالجزء الأكبر من التبادلات التجارية بين القاهرة وأنقرة يشمل سلعًا مصنّعة، ناهيك عن أن السلع المتبادلة كشفت إمكانية إنشاء سلاسل إمداد إقليمية (أي شبكات متكاملة من المنتجين الذين يبتكرون منتجًا أو خدمة)، ما أدّى إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبَين على نحو أكبر.

ويتضمن قسم كبير من التبادلات التجارية المصرية التركية عناصر مستخدمة في إنتاج سلع أخرى، كالمواد الخام والسلع نصف المصنّعة أو الوسيطة والسلع الإنتاجية.

ففي العام 2019 مثلًا، شكّل القطن والخيوط والألياف الأساسية والمواد الوسيطة المستخدمة في صناعة الملابس في تركيا 20 في المئة تقريبًا من صادرات مصر إليها. وفي العام نفسه، شكّلت المواد البلاستيكية حوالي 22 في المئة من إجمالي الصادرات المصرية.

في المقابل، شمل جزء كبير من واردات مصر من تركيا الحديد والصلب، فضلًا عن منتجات الحديد كالألواح والأسافين والشفرات، لتشكّل 19 في المئة من الواردات. أما المواد البتروكيميائية فشكّلت 15 في المئة من الواردات.

والمُلفت أن التجارة المصرية التركية أظهرت منحًى قويًا نحو التبادل التجاري داخل القطاع الصناعي الواحد. فعلى سبيل المثال، ظهرت المواد البلاستيكية في العام 2020 على قائمة الصادرات والواردات لكلا البلدين، وهي تشمل البوليمرات والمواد المطاطية وخلايا البطاريات.

وبلغت قيمة صادرات مصر إلى تركيا من أنواع معينة من المواد البلاستيكية 348.95 مليون دولار، في حين استوردت أنواعًا أخرى بقيمة تصل إلى 129.76 مليون دولار.

والأبرز في ذلك العام كان حجم التبادلات التجارية في المعدات الكهربائية والإلكترونية، ومن ضمنها الآلات وقطع الغيار وبعض المنتجات العالية التقنية.

يُشار في هذا الإطار إلى أن أسعار الصادرات المصرية من هذه السلع بالدولار الأميركي متساوية تقريبًا مع أسعار المعدات الكهربائية والإلكترونية المستوردة من تركيا، ما يُعتبر مظهرًا آخر من مظاهر التبادل التجاري داخل القطاع الصناعي الواحد، والذي يشهد نموًا مطّردًا بين البلدَين.

ويتطلّب هذا النوع من التبادلات التجارية مستوى من التصنيع والتطوّر بين الشركاء التجاريين، غير متوافر في تصدير المواد الخام. ويفسح ذلك المجال أمام الشركاء لرفع مستوى صادراتهم إلى منافذ ذات قيمة أعلى من خلال إنشاء سلاسل إمداد، ونقل المعارف التكنولوجية والمهارات، والانخراط في أسواق التصدير.

وينطبق هذا بشكل خاص على الاقتصاد المصري، الذي لا يُعدّ صناعيًا بقدر الاقتصاد التركي.

في العام 2017، قدّر رئيس جمعية رجال الأعمال الأتراك-المصريين، أتيلا أتايسيفين، حجم الاستثمارات الخارجية التركية المباشرة في مصر بما يقارب 2 مليار دولار، إضافةً إلى وجود حوالى 540 شركة تركية عاملة في البلاد.

مع ذلك، لا يزال إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر التركي في مصر ضئيلًا للغاية مقارنةً مع الدول الأخرى.

وذكر تقرير صادر عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في العام 2019 أن نسبة الاستثمار الأجنبي المباشر التركي في مصر في العام 2016 كانت بالكاد 0.4 في المئة من إجمالي صافي تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى البلاد.

لكن الجدير ذكره أن معظم الاستثمارات التركية كانت مخصّصة للقطاع الصناعي، الذي كانت تبلغ مساهمته نسبة 3.4 في المئة فقط من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في العام 2016، مقارنةً مع عمليات التنقيب عن النفط والغاز التي كانت تسهم بنسبة 53.5 في المئة.

ونظرًا إلى الحصة الإجمالية المتواضعة للاستثمارات التركية في مصر، يبدو أن التجارة هي التي ترسم في الدرجة الأولى معالم الشراكة الاقتصادية بين البلدَين، وليس الاستثمار.

ويشي ذلك بأن تنويع الاقتصاد المصري بعيدًا عن الاعتماد على النفط كوجهة رئيسة للتدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر يتطلّب توفير سلاسل قيمة إقليمية وعالمية في القطاع الصناعي، على غرار تلك القائمة بشكلها الأولي مع المستثمرين الأتراك في المناطق الصناعية المصرية المعفاة من ضريبة الدخل والمبيعات ورسوم الاستيراد والتصدير.

تأثيرات هذا الواقع على التكامل الإقليمي

لا شكّ في أن متانة العلاقات التجارية المصرية التركية تؤثّر في الاقتصاد السياسي للتكامل الإقليمي في الشرق الأوسط. أولًا، ينطوي التكامل الاقتصادي عبر التجارة على إمكانيات تنموية أكبر من عمليات التبادل بين رأس المال والعمالة التي طبعت تاريخيًا العلاقات الاقتصادية بين دول الشرق الأوسط منذ الصدمة النفطية الأولى في العام 1973.

لقد اعتمد هذا النوع من التبادلات على نقل فائض العمالة من الدول المكتظّة بالسكان والمفتقرة إلى رأس المال، مثل مصر والأردن ولبنان والسودان وسورية واليمن، إلى الدول المنتجة للنفط الغنية برأس المال إنما المفتقرة إلى السكان، مثل دول الخليج، إضافةً إلى ليبيا حتى العام 2011.

فهذا النهج لم يؤدِّ إلى إنشاء سلاسل قيمة إقليمية أو إلى تنويع الاقتصاد من خلال التجارة والاستثمار، بل على العكس أعاد في المقام الأول توزيع الريع النفطي على المستوى الإقليمي، وبالتالي نقل المشاكل التي تشوب الاقتصاد الريعي إلى الدول الفقيرة بالنفط.

ثانيًا، تتمتّع الترتيبات التجارية بقدرة أكبر على الصمود أمام رياح التشنّجات والتنافسات السياسية مقارنةً مع الأشكال الأكثر تقليديةً على غرار التبادل الإقليمي بين رأس المال والعمالة.

ويُعزى ذلك إلى أن عرقلة التبادلات التجارية تطال عددًا أكبر من الجهات الفاعلة في القطاعات التجارية، وبالتالي تكبّد الأطراف المعنية والاقتصاد الوطني تكاليف باهظة.

في السابق، كان من الأسهل على الدول الغنية برأس المال، على غرار دول مجلس التعاون الخليجي، حجب المساعدات والقروض والاستثمارات عن الدول الأخرى في فترات النزاع السياسي، أو حتى الحدّ من قدرة هذه الدول على دخول أسواق العمل خاصتها، ما أثّر بشكل سلبي على التحويلات التي يرسلها العمّال إلى بلدانهم الأفقر.

يُشار إلى أن صمود اتفاقية التجارة الحرة المصرية التركية، مصحوبًا بالنمو التجاري المتواصل بين القاهرة وأنقرة منذ العام 2013 ليسا أمرًا استثنائيًا. فقد حافظت تركيا على شراكاتها التجارية المهمة مع عدد كبير من منافسيها الإقليميين، مثل إيران وإسرائيل والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.

وينطبق هذا النمط على تركيا أكثر من سائر الدول لأنها تملك أكبر اقتصاد صناعي في المنطقة. وشكّلت السلع المصنّعة 80 في المئة من إجمالي الصادرات التركية في العام 2017، على خلاف الدول العربية في المنطقة وإيران، التي لا تزال تعتمد بصورة أكبر على تصدير الوقود الأحفوري والمواد الخام الأخرى.

يُشار في هذا الصدد إلى أن العلاقات التجارية المصرية التركية تتناقض بشكل صارخ مع تجارب سابقة غالبًا ما قوّضت فيها النزاعات السياسية العلاقات الاقتصادية.

خاتمة: نموذج لا يزال محدودًا إقليميًا

بغضّ النظر عن النجاح الذي حققه النمط المصري التركي في الحفاظ على العلاقات التجارية وسط جوٍّ من التنافس السياسي، قد يثبت أنه أكثر تعقيدًا في أماكن أخرى من الشرق الأوسط.

عمومًا، يُعدّ التبادل بين رأس العمل والعمالة أكثر شيوعًا من التبادلات التجارية في مختلف أنحاء المنطقة لأن مستوى قطاعاتها الصناعية متواضع.

لكن هذا لا يعني أن نمط التكامل الاقتصادي المصري التركي عبر حركة التجارة الحرة لا يخلو من القصور، إذ يبدو أنه ينجح فقط مع الأشكال السطحية من التكامل الإقليمي، والتي تستند إلى تحرير التجارة من خلال التخلي التدريجي عن الحواجز الجمركية وغير الجمركية، لكنه لا يرقى إلى تحقيق المواءمة التنظيمية لضمان التدفق الحر للاستثمارات والعمالة.

فترتيبات التكامل السطحية تتطلّب امتناع الحكومات المتنافسة عن تعطيل الحركة التجارية القائمة وتدفق رؤوس الأموال. لذا، تفتقر هذه الترتيبات إلى الفعالية لأنها تعوّل فقط على عدم امتداد النزاع السياسي إلى المجال الاقتصادي.

في المقابل، تتطلب الأشكال الراسخة من التكامل الاقتصادي، مثل الاتحاد الأوروبي أو السوق المشتركة الجنوبية (المعروفة اختصارًا بـ”ميركوسور”) عمليات طويلة وشاقة تُعنى ببناء المؤسسات وتحقيق المواءمة التنظيمية، وهذه الإجراءات لا ينبغي أن تُصان من الخلافات فحسب، بل أن تنصّ الاتفاقيات السياسية على تنفيذها أيضًا.

ونظرًا إلى احتدام التنافس الجيوسياسي بين الكثير من القوى الكبرى في الشرق الأوسط، على غرار مصر وإيران وإسرائيل وقطر والسعودية وتركيا والإمارات، من المستبعد أن يتم في وقت قريب إرساء القواعد المؤسساتية اللازمة لإقامة أشكال أعمق من التكامل بين مختلف الأطراف المتنافسة في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى