Site icon أوروبا بالعربي

هل تنبأ الكاتب فريدريش دورنمات بعام 2020 قبل عقود؟

مشروع قرار أميركي أمام مجلس الأمن لفرض حظر على الأسلحة إلى جنوب السودان

جنيف- تصدرت القصة القصيرة “الوباء الفيروسي في جنوب إفريقيا” للكاتب السويسري فريدريش دورنمات صفحات الأخبار ووسائل التواصل الاجتماعي كنبوءة أدبية بعام 2020 ذلك بعد مرور ثلاثين عام على وفاته.

فتبقى الأسئلة, هل كان دورنمات كاتباً سابقاً لعصره أم أن المجتمعات الحديثة هي التي تأخرت في تجاوز آفة التمييز العنصري ولا سيما في أوقات انتشار الأوبئة؟

ينهض رئيس جنوب إفريقيا وزوجته ذات صباح وقد أصابهما أعراض برد مصحوباً بتحول البشرة من اللون الأبيض إلى الأسود ويتم القبض على الرئيس بتهمة انتحال شخصية الرئيس ويُزج به في السجن، ليجد وزير العدل هناك وقد تحول لون بشرته إلى اللون الأسود.

بعد التحقق من هويتهما، يخرج المسؤولان من السجن، لكن الوباء الفيروسي، الذي يحول “البيض إلى سود” ما يلبث أن ينتشر في البلاد ومع الوقت لا يجرؤ البيض على الخروج إلى الشارع بعد تحولهم إلى سود.

ويبدأ رجال الشرطة والجيش البيض في إطلاق النار على رجال الشرطة والجيش المتحولين إلى اللون الأسود.

أما سويسرا، فيصلها أيضاً الوباء، بعدما يزور وفد من مصرف في زيورخ جنوب إفريقيا ويعود أعضاؤه إلى البلاد وقد تحولت بشرتهم إلى اللون الأسود.

بعد وصولهم المطار يتم نقلهم إلى مخيم للاجئين، ثم إلى مستشفى الكانتون، حتى تتحقق سلطات المطار من أن هذا هو الوفد الذي تم إرساله إلى جنوب إفريقيا.

وفي جنوب إفريقيا تحاول الحكومة، التي أصبح أعضاؤها (بيض سود) مواجهة هذه الفوضى المجتاحة نظام الفصل العنصري الصارم، عبر فرض قوانين تحافظ على تفوق البيض وتمييز السود، لكن سياسات التمييز تفشل في التمييز بين “البيض السود” و”السود السود” وذلك رغم محاولة الاستعانة بالأطباء والشهود أمام المحكمة، ومع انتشار الفوضى مع محاولات فرض قوانين عبثية، تقوم ثورة تطيح بالحكومة.

وكانت هذه نهاية الفصل العنصري، كما أخبر مصرفي في زيورخ كاتب القصة، الذي يختم بالقول إن المصرفي السويسري كان أيضاً أسوداً يرقص على موسيقى الجاز ويشع ببهجة غريبة على سكان زيورخ، أما الروائي فيقول إنه كتب هذه الكلمات وهو مصابًا بنزلة برد مفاجئة ويرتجف بالحمى.

هذا ملخص القصة القصيرة “الوباء الفيروسي في جنوب إفريقيا” للكاتب السويسري فريدريش دورنمات، والتي أُعيد اكتشافها هذا العام مع انتشار فيروس كورونا واندلاع المظاهرات المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة وانتقال شرارتها إلى جميع أنحاء العالم، حيث رأى البعض في النص نبوءة أدبية لأحداث عام 2020 وتبعاتها الاجتماعية وانعكاساتها السياسية.

بيتر فون مات، الكاتب وأستاذ الأدب الألماني في جامعة لوتسرن يرى أن هناك تشابه كبير بين هذه القصة القصيرة وعام 2020 من منظور معالجة قضية العنصرية والخطر الكامن في سلطة الدولة ودورها في ترسيخ التمييز الاجتماعي بالقوانين ” هذه القصة هي تصوير واقع مشوه يجمع التناقضات بين الرعب و الكوميديا،  والتي تجعلك تدرك أيضًا مدى العبثية التي تبدو عليها سلطة الدولة عندما تقوم بتمرير قوانين راديكالية”.

ويضيف “الوباء  ظاهرة، لا تقتصر على المرض، ولكنها ترتبط بحقيقة أن كل وباء يجبر الدولة على اتخاذ إجراءات وبالتالي تقييد حرية الناس وحتى  في أسوأ الحالات إلى قمع الحريات وهذا الارتباط بين المرض والسياسة هو بالطبع إشكالية متواصلة”.

وينوه بيتر فون مات إلى أن طابع الكوميديا في هذه القصة هدفه تعرية الدولة “الإرهابية”، التي تمارس السلطة المطلقة لحرمان المواطن والمواطنة من الحريات  “هذه القصة بمثابة دراسة للدولة الإرهابية، التي تحرم مواطنيها من نفس الحقوق لمجرد أنهم من السود.

وهذا شبيه بما حدث في الدول الشيوعية الراديكالية في ألمانيا الشرقية، التي سجنت مواطنيها داخل حدودها وكانت تحاسبهم على ما يفكرون فيه أو يؤمنون به أو يتحدثون عنه، لتنهار الدولة في النهاية، كما حدث في هذه القصة”.

ويشير إلى أهمية كتاب مثل دورنمات لأنهم كانوا و مازلوا يحذرون من النزعة الاستبدادية الكامنة في كيان كل دولة، لأن  تتمتع بسلطة هائلة على مواطنيها ” وهذا جزء من مهمة الكتاب والفنانين، مراقبة الدولة، بطريقة تجعل الناس متيقظين وحذرين”.

دورنمات يُعرّي العنصرية والتمييز

سمير جريس، الصحفي والمترجم المصري الألماني يرى أن هذه القصة القصيرة، التي تتوقع انتشار الوباء بسرعة فائقة وربطها بالعنصرية  هي بمثابة نبؤة دورنمات الأخيرة، حيث كتب قصة الفيروس الوبائي في جنوب إفريقيا  قبل عام من وفاته: “هذه القصة الرمزية الساخرة تحمل بعدا رؤيويا، وتتنبأ بنهاية نظام الفصل العنصري البغيض”.

لكن بالنسبة لجريس تبقى القصة بالطبع ابنة زمنها وزمن كتابتها، وهي تتحدث عن الفصل العنصري، لا عن انتشار وباء أو جائحة كورونا، وفق رأيه: “الفروق كثيرة بين ما حدث في القصة وبين ما نشهده اليوم.

وأهم الفروق في رأيي هو أن فيروس “كورونا” يعمق الفوارق بين الطبقات، ويعمق الهوة بين الأغنياء والفقراء.

وسيتضح ذلك أكثر فأكثر عند طرح اللقاح في الأسواق. إذن فيروس كورونا لن يساوي بين البشر مثلما أراد دورنمات في قصته الساخرة”.

لذا يبقى دورنمات بنقده الاجتماعي اللاذع كاتباً متفرداً حتى اليوم، كما يؤكد غريس “دورنمات هو شاعر الكوارث البشرية، الكاشف عن الأعماق الإنسانية المظلمة، والمتنبئ بالجنون العالمي المدمر.

لا تمنح قصص دورنمات ومسرحياته الأمل الكاذب، بل تفتح عين القارئ على اتساعها ليرى العالم كما هو، أو ربما أبشع مما هو”

ويضيف “منذ أعماله الأولى يبدو دورنمات كاتباً حكيما،ً عجوزاً يتأمل في أحوال العالم، ويتلذذ بتصوير متاهاته وشروره؛ كاتباً يؤمن بأن السخرية هي الوسيلة الوحيدة لتحمل هذا العالم المجنون”.

لكن اللافت أن دورنمات، ليس الكاتب الوحيد، الذي يتم إعادة اكتشافه في عام 2020.

رواية الطاعون للكاتب الفرنسي ألبير كامو، الفائز بجائزة نوبل، تم إعادة طباعتها هذا العام في بريطانيا نظرا للإقبال الشديد. كما ارتفعت حجم مبيعاتها في سويسرا.

كما أعيد اكتشاف كتاب آخرين مع اشتداد حدة الجدل الدائر حالياً حول سلطة الدولة ومدى إمكانية تدخلها في الحياة الخاصة للأفراد ومراقبتهم وإصدار قوانين استثنائية وفي أكثر السيناريوهات قتامة إقرار حق الحياة والموت في حالة طب الكوارث.

مثال ذلك  نظرية “السياسة الحيوية” للفيلسوف الفرنسي مشيل فوكو، التي تتعاطى مع الطب المؤسساتي وفكرة تحويل الأفراد إلى مجرد أجساد تتحكم فيها سلطة الدولة ضمن سياستها لاحتواء الأوبئة.

العنصر الأهم في هذه القصة القصيرة هو ارتباط الوباء بالعنصرية وهي ثنائية متلازمة عبر التاريخ، فخلال موجة الطاعون في الأعوام 1348 إلى 1353 وانتشاره في أوروبا،

اُتهم اليهود بالتسبب في المرض عبر تسميم آبار المياه، وغذي هذا الاعتقاد قلة عدد الإصابات في الجالية اليهودية.

واندلعت أعمال عنف ضد اليهود، حيث وقعت أعمال سلب ونهب ومذابح على أيدي الأهالي أنفسهم، أدت في النهاية إلى القضاء على وجود اليهود في وسط أوروبا.

وفي الولايات المتحدة اتهم المهاجرون الأيرلنديون بنشر وباء الكوليرا والمهاجرين الإيطاليين بنشر مرض شلل الأطفال.

ومع انتشار فيروس ايبولا أصبح داكني البشرة أكثر عرضة للتمييز والتهميش في العديد من دول العالم.

ورغم  توفر العلم والمعرفة اليوم بطبيعة الفيروس وكيفية انتشاره في عام 2020، فإن هذا لم يحول دون تعرض الأشخاص ذوي أصول أسيوية إلى اعتداءات عنصرية مع انتشار فيروس كورونا المستجد.

وعلى عكس بعض التصورات، فإن التمييز في زمن كورونا لم يقتصر على الأشخاص المنحدرين من آسيا، بل إلى فئات أخرى مهمشة في المجتمع، فمن سلوفاكيا إلى رومانيا وبلغاريا، سنت دول تدابير صارمة أو عسكرية تستهدف أحياء أو مدن الروما.

بعض هذه الإجراءات مدفوعة بسرد عنصري يصور الغجر على أنهم تهديد جماعي للصحة والسلامة.

وفي الهند شاهدنا قيام  أفراد الشرطة بعمليات تعقيم جماعي لعدد من العمال بعد عودتهم من العمل وترحيل ملايين العمال والعاملات، الذين تم طردهم من المدن مع انتشار فيروس كورونا.

تجاوز حدود الجغرافيا وقوانين الزمن

انتشار ظواهر التمييز على أساس العنصر أو الطبقة في العديد من الدول في العالم على مدار التاريخ، قد تكون مؤشرا على أن قصة دورنمات ليست نبوءة، بقدر ما هي إعادة تذكير بظواهر اجتماعية كانت وما زالت منتشرة وتعيد إنتاج ذاتها.

وهي مؤشرات على  أن الفيروسات لا تصيب مناعة الجسم فقط، بل أيضاً تماسك نسيج المجتمع.

مؤخرا كشفت العديد من الإحصائيات أن الفقراء والشرائح المهمشة اجتماعيا هم الأكثر إصابة بالمرض، حيث خلصت دراسة حديثة إلى أن  كوفيد ـ 10 هو وباء مركب أي أن انتشاره يعتمد على تفاعل أمراض مع بعضها  في الظروف الاجتماعية والبيئية لتجعل فئات معينة من السكان أكثر عرضة للتأثر بها.

وهو ما أوضحه الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش بقوله ” آثار الفيروس تستهدف العمال الفقراء والنساء والأطفال وذوي الإعاقات وغيرهم من الفئات المهمشة”.

أما الأقليات فتصبح مستهدفة بشكل متزايد لحوادث التمييز العنصري  كجزء من ظاهرة تفشت في في جميع أنحاء العالم على مر التاريخ.

ونقد الكاتب السويسري دورنمات اللاذع لهذه الظواهر الاجتماعية والسياسية ، هي ما نقلته إلى العالمية وجعلت نصوصه قابلة لإعادة النشر والتأويل حتى هذه اللحظة، كما يقول فون بيتر “لدى هذا الكاتب المبدع خيال شيطاني، لذا تجاوز حدود سويسرا بسرعة كبيرة واليوم يعاد طباعة كتبه، التي تجاوزت زمنها، لتبقى معنا حتى في عام 2020”.

 

Exit mobile version