أزمة بيلاروسيا وبولندا.. الأسلاك الشائكة تخنق ضمير أوروبا
مرة أخرى، هناك سياج من الأسلاك الشائكة يحيط بأوروبا ويجرح قيمها الأساسية ويخنق ضميرها.
تتكشف كارثة إنسانية أخرى على أعتاب الاتحاد الأوروبي، على طول الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا، حيث يُكابد آلاف من المهاجرين وطالبي اللجوء الجوع والبرد، في انتظار من يفتح الطريق الذي على سهولة فتحه سُد عمدًا أمامهم.
بدأت الأزمة في أواخر أغسطس/آب 2021، عندما خفّفت بيلاروسيا قوانين التأشيرة الخاصة بها، ما أدّى إلى وصول أعداد كبيرة من المهاجرين وطالبي اللجوء –معظمهم من الشرق الأوسط- إلى حدود بولندا ولاتفيا وليتوانيا على أمل زائف بالوصول الآمن والسهل إلى الاتحاد الأوروبي، مع الأخذ بيعن الاعتبار أنّ هذه الأماكن لم تكن يومًا طريقًا يسلكه المهاجرون وطالبو اللجوء للوصول إلى دول الاتحاد الأوروبي.
نتيجة لمشروع الاتجار بالبشر هذا، تقطعت السبل بحوالي (4,000) شخص في أعماق غابة بياوفيجا في البرد القارص، بين بيلاروسيا والبلدان المجاورة لها، والتي عسكرت وأغلقت حدودها لمنع طالبي اللجوء من الدخول إلى أراضيها.
من الصعب معرفة عدد النساء والرجال والأطفال العالقين في هذه الأرض المتجمدة، لكنّ من السهل ملاحظة تعامل الشرطة البولندية مع محاولاتهم عبور الحدود، بالغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية ومدافع الماء.
بسبب عدم تمكنهم من دخول الاتحاد الأوروبي أو العودة إلى مينسك، استقر عدد من المهاجرين وطالبي اللجوء في مخيم مؤقت بالقرب من معبر كوزنيكا، في شمال غرب بيلاروسيا، من بينهم عدد كبير من النساء الحوامل والأطفال، مثل “تامان”، فتى كردي يبلغ من العمر 9 سنوات، ولد بمرض في العظام، ويعيش حاليًا مع عائلته في الغابة منذ أكثر من أسبوع، ويمشي في الوحل على ساقيه الاصطناعية.
وُثّق وفاة ما لا يقل عن 11 من المهاجرين وطالبي اللجوء بسبب البرد، آخرهم طفل سوري عمره سنة واحدة، لكنّ النشطاء يؤكدون أنّ العدد الحقيقي أعلى من ذلك بكثير، غير أنّ بولندا منعت الصحفيين والمنظمات غير الحكومية من دخول المنطقة الحدودية، ما يجعل من الصعب تقييم حجم المعاناة الإنسانية.
وفقًا لرئيسة المفوضية الأوروبية، “أورسولا فون دير لاين”، فإن هذا الوضع مدبّر بالكامل من ديكتاتور بيلاروسيا، “ألكسندر لوكاشينكو”، من أجل “الضغط على الاتحاد الأوروبي باستغلالٍ معيبٍ للمهاجرين” ردًا على العقوبات التي فرضتها بروكسل على نظام بلده الاستبدادي. ومع ذلك، فإن الأزمة ليست مرتبطة فقط بمسؤوليات بيلاروسيا.
رفضت الحكومة البولندية جميع المساعدات التي قدمتها بروكسل، ومنعت الوصول لمنطقة الحدود، وأعلنت حالة الطوارئ غير المشروعة، وصدت بشكل غير قانوني جميع طالبي اللجوء الذين تمكنوا من دخول أراضيها.
كانت وارسو حريصة بشكل خاص على تصعيد التوتر واستغلاله لافتعال دعاية داخلية، حيث اتهمت بيلاروسيا بـ “إرهاب الدولة”، وأرسلت (20) ألف جندي إلى المنطقة الحدودية.
وقد حقق هذا النهج المتشدد نجاحًا باهرًا بالنسبة الحكومة القومية اليمينية في بولندا، حيث أظهر الحزب قوته، مقدمًا نفسه على أنه المنقذ القوي الوحيد للشعب البولندي.
الوضع الآن متفجر، خاصة أنّ الأحداث تقع على حدود دولة عضو في حلف الناتو، ودولة أخرى تدين بالولاء الكامل لروسيا.
اقترح رئيس الوزراء البولندي “ماتيوز موراويكي” تفعيل بلده -إلى جانب لاتفيا وليتوانيا وإستونيا- المادة (4) من معاهدة الناتو، التي تدعو إلى التشاور [مع باقي أعضاء الحلف] عندما تتعرض سلامة أراضي دولة عضو أو أمنها للتهديد.
وعلى الجانب الآخر، ألقى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، الحليف الأهم لـ “لوكاشينكو”، باللوم على الغرب لإثارة أزمة الهجرة ووافق على نشر قاذفات ذات قدرات نووية لتجوب المنطقة الحدودية، وإرسال عناصر من قوات المظليين الروس إلى منطقة غرودنو البيلاروسية بالقرب من الحدود البولندية، من أجل إجراء تدريبات عسكرية مع القوات البيلاروسية.
الخصم الثالث في المأزق هو الاتحاد الأوروبي، الذي يفكر في جولة خامسة من العقوبات لا تستهدف المسؤولين البيلاروسيين فحسب، بل أيضًا شركات الطيران التابعة لبلدان ثالثة “تنشط في مجال الاتجار بالبشر”.
اتخذت العديد من شركات الطيران، بما في ذلك الخطوط الجوية التركية ودبي والسورية، خطوات للحد من وصول المسافرين العراقيين والسوريين واليمنيين إلى مينسك، وأعلنت الحكومة العراقية هذا الأسبوع أنها سترتب رحلات عودة طوعية إلى الوطن لإعادة المواطنين العراقيين الراغبين في العودة، حيث غادرت بالفعل أول رحلة عائدة إلى بغداد في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، وكان على متنها (431) شخصًا.
وعلى الرغم من حظر الطيران وعمليات الإعادة الطوعية والإيواء المؤقت لنحو (1,000) مهاجر في مركز بيلاروسيا في بروزجي، ما تزال الاضطرابات على الحدود مستمرة، وكذلك الأزمة الإنسانية.
ومع تزايد التهديدات وتصاعد الاتهامات المتبادلة، يزداد تواجد القوات على كلا الجانبين، كما ترتفع حدة الاشتباكات بين الجنود وطالبي اللجوء، إذ اعتقلت القوات البولندية نحو (100) مهاجر وطالب لجوء في ليلة واحدة فقط.
وصفت رئيسة المفوضية “فون دير لاين” الوضع بأنه “هجوم مختلط” على المصالح الاستراتيجية الأوروبية، “وليس أزمة هجرة” مع التركيز مرة أخرى على التهديد الأمني بدلاً من الضحايا الحقيقيين واحتياجاتهم الإنسانية.
ومع دراسة الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات جديدة على بيلاروسيا، فإنّ الجهة الوحيدة التي تدافع عن حقوق المهاجرين وطالبي اللجوء وتناضل لحمايتهم في هذه المواجهة المصطنعة هي منظمات المجتمع المدني.
منذ نحو أسبوع، ظهرت على طول الحدود الشرقية لبولندا أضواء خضراء صغيرة في عدد كبير من المنازل، كرسالة مشفرة لدعوة المهاجرين وطالبي اللجوء للاقتراب من تلك المنازل للحصول على المساعدة.
وعلى الرغم من مخاطر الغرامات أو الشكاوى لمساعدة “الهجرة غير الشرعية” والتحريض عليها، فإن من يضيء الضوء الأخضر يعد بفتح الباب وعدم الاتصال بالشرطة.
وكتبت صفحة “الضوء الأخضر” على فيسبوك، وهي صفحة أنشأها محام بولندي، “في المنزل المميز بضوء أخضر بدءًا من المساء، ستجد مساعدة طارئة. لن نساعدك على الاختباء أو الاستمرار في رحلتك. سنساعدك فقط على البقاء على قيد الحياة – كجزء من التضامن مع الشخص المحتاج”.
ما هذا إلا بصيص من الضوء في الظلام، يشير إلى أن ضمير أوروبا لم يختنق بالكامل بالأسلاك الشائكة الحادة السامة.