Site icon أوروبا بالعربي

تحول محتمل نحو حكم أكثر لامركزية في تركيا

تحول محتمل نحو حكم أكثر لامركزية في تركيا

تشير الانتخابات البلدية التركية إلى تحول محتمل نحو حكم أكثر لامركزية وتمثيل سياسي متنوع مع اكتساب أحزاب المعارضة نفوذها.

وتلقى حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أقسى هزيمة سياسية له منذ وصوله إلى السلطة عام 2002، كما ظهر في نتائج الانتخابات البلدية التي تم الإعلان عنها في الأول من شهر نيسان/أبريل 2024.

وفي المقابل، حقق حزب الشعب الجمهوري المُعارض، حامل الإرث الأتاتوركي العلماني، النتائج الانتخابية الأفضل له منذ أكثر من 47 عامًا.

وهكذا اضطر أردوغان للاعتراف بالخسارة على جناح السرعة دون مواربة، واعدًا الجمهور بتصحيح الأخطاء واحترام النتائج بوصفها إنذارًا من الشعب.

وقالت مؤسسة “فنك” الأوروبية إن أهمية هذه الانتخابات لم تقتصر على كونها استفتاءً على شعبية سياسات أردوغان، بعد نحو 10 أشهر من فوزه بولاية رئاسية جديدة.

إذ أشارت النتائج أيضًا إلى فشل أردوغان في إمساك جميع مفاصل النفوذ في البلاد، خصوصًا أن البلديات التركية تملك هامشًا واسعًا من الصلاحيات المحلية واللامركزية.

أما الأهم، فهو أن هذه الانتخابات ستترك أثرها على الانتخابات الرئاسية التركية المقبلة عام 2028، بعد أن تمكن حزب الشعب الجمهوري من تجديد ولاية رئيس بلدية اسطنبول أكرم إمام أوغلو، الذي يطمح لتزعم معسكر المعارضة في المرحلة المقبلة.

فوز ساحق لحزب الشعب الجمهوري

راهن أردوغان منذ البداية على تشتت المعارضة في الانتخابات البلدية الأخيرة، وعدم انسجامها في تحالفها الموحد، بعكس ما كان عليه الحال في الانتخابات الرئاسية عام 2023. كما راهن أيضًا على الخضة التي أصابت حزب الشعب الجمهوري المُعارض، بعد الهزيمة التي لحقت بالحزب في الانتخابات الرئاسية.

ببساطة، كان حزب العدالة والتنمية الحاكم يتوقع أن يحقق في الانتخابات البلدية نتائج أفضل من تلك التي حصل عليها في الانتخابات الرئاسية، التي فاز بها أساسًا.

غير أن النتائج ذهبت بالاتجاه المُعاكس تمامًا. فحزب الشعب الجمهوري، الذي فشل في تصدر نتائج أي استحقاق انتخابي منذ العام 1977، حل هذه المرة في المرتبة الأولى من حيث نسبة الأصوات التي حصل عليها، والتي بلغت حدود الـ 37.76%.

أما حزب العدالة والتنمية، الذي تصدر نتائج جميع الاستحقاقات الانتخابية على مر الأعوام الـ 22 الماضية، فحل في المرتبة الثانية بنسبة أصوات لم تتجاوز الـ 35.48%.

هذا التبدل الكبير في ترتيب نتائج الحزبين، مثل بالفعل “نقطة تحول” كما وصف أردوغان النتائج بمرارة وحزن، معترفًا أن الانتخابات أظهرت فقدان حزبه جزءًا من شعبيته في “عموم البلاد”.

أما معارضوه في حزب الشعب الجمهوري، فكانوا مُدركين أهمية الانتصار الذي تمكنوا تحقيقه، والذي اعتبره زعيم الحزب أوزغور أوزيل “تغييرًا لوجه تركيا”.

وللمرة الأولى ومنذ أكثر من عقدين، كان بإمكان المعارضة أن تفرط باحتفالاتها في الشوارع، خصوصًا بعد أن حققت انتصارًا كاملًا على مستوى تركيا، في وجه الحزب الحاكم.

نتائج أحزاب المُعارضة الأخرى

إلا أن معالم هزيمة أردوغان لم تقتصر على تراجعه أمام المعارضة العلمانية. بل كان المؤشر الأخطر والأكثر أهمية تقدم حزب الرفاه الجديد، الذي حاز للمرة الأولى على نسبة قد تجاوزت الـ 6.19% من الأصوات.

مع الإشارة إلى أن نسبة أصوات هذا الحزب لم تتخط حدود الـ 2.8%، في الانتخابات النيابية الماضية عام 2023.

يُعتبر حزب الرفاه الجديد حزبًا إسلاميًا معارضًا لأردوغان، بتوجهات إيديولوجية قومية. وزعيم هذا الحزب، هو فاتح أربكان، نجل الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، الأب الروحي المؤسس لحالة الإسلام السياسي الحديثة في تركيا، التي انطلق منها حزب أردوغان.

باختصار، يُعتبر تقدم حزب الرفاه الجديد تهديدًا مباشرًا لزعامة ومكانة أردوغان، بفضل قدرة الحزب على اختراق الشرائح الاجتماعية المُحافظة، التي تقوم عليها شعبية حزب العدالة والتنمية.

كما تمكنت المعارضة التركية من قضم شريحة من أصوات الجمهور اليميني القومي، عبر نيل حزب الجيد القومي المُعارض 3.77% من إجمالي الأصوات. وهذا ما حرم أردوغان من نسبة مؤثرة من الأصوات التي كانت تصب لمصلحة حلفائه التقليديين، في الحركة القومية.

أما حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، الذي يعبر عن حالة المُعارضة الكردية، فقد نال بدوره 5.7% من أصوات الناخبين الأتراك.

وبشكلٍ عام ، يمكن القول إن الأحزاب المُعارضة لأردوغان، بمختلف توجهاتها الإيديولوجية، نالت أكثر من 54.5% من أصوات الناخبين الأتراك، وهو ما يفسر فشل حزب العدالة والتنمية في الحفاظ على معاقله الطبيعية.

بيد أن الضربة الأقسى التي تلقاها أردوغان خلال الانتخابات، كانت تراجع نسبة التصويت في صفوف الناخبين الذين اعتادوا التصويت لحزبه، بالإضافة إلى نزوح جزء من قاعدته الشعبية باتجاه حزب الرفاه الجديد.

مواقع نفوذ المعارضة تتوسع

كان من الطبيعي أن ينعكس تبدل نسب الأصوات، التي حاز عليها كل حزب، على مواقع نفوذه داخل البلديات.

حيث تشير الأرقام إلى أن حزب العدالة والتنمية خسر هذه الدورة الانتخابية 15 بلدية كبرى، من بين 39 بلدية كبرى كان يسيطر عليها قبل الانتخابات. في المقابل، رفع حزب الشعب الجمهوري عدد البلديات الكبرى التي يسيطر عليها من 21 إلى 35.

أما الأهم، فهو أن حزب الشعب الجمهوري وسع حضوره باتجاه المناطق المُحافظة والمناطق الشرقية مثل أديامان، بعدما تركز نفوذه في الدورات الانتخابية السابقة في المدن الساحلية الغربية.

وبهذا الشكل، تمكن الحزب العلماني من كسر بعض الحواجز المناطقية والثقافية، التي لطالما حدت من حضوره خارج المدن الكبرى.

وبعد الانتخابات البلدية، بات للحزب سيطرة كبيرة في مناطق وسط الأناضول وبحر إيجه ومعظم أنحاء منطقة مرمرة.

ومن المعلوم أن حزب الشعب الجمهوري كان يسيطر على رئاستي بلديتي أنقرة واسطنبول قبل هذه الدورة الانتخابية. غير أن الجديد في نتائج الانتخابات كان تمكن الحزب من الحصول على الأغلبية داخل مجلسي البلديتين، وهو ما عزز من هيمنة الحزب على البلديتين.

كما حاز الحزب على بلديات المُدن الكبرى الأساسية، كأزمير وأضنة ومرسين وأنطاليا.

في المقابل، ورث حزب المساواة وديمقراطية الشعوب حضور حزب الشعوب الديمقراطي، في جميع المناطق ذات الكثافة الكردية.

وكان حزب المساواة وديمقراطية الشعوب قد تشكل أساسًا كبديل كردي عن حزب الشعوب الديمقراطي، بعد الملاحقات القضائية التي تعرض لها حزب الشعوب الديمقراطي، بتهمة الارتباط بحزب العمال الكردستاني.

أردوغان والاقتصاد والحرب على غزة

تعددت الأسباب التي أدت إلى هذه الهزيمة المدوية، التي لحقت بأردوغان. وأبرز العوامل التي أثرت في قرار الناخبين، ارتبط بالأوضاع الاقتصادية، التي سادت في تركيا بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

فبعد انتهاء الانتخابات الرئاسية، عمل أردوغان على تكليف فريق اقتصادي جديد، بالعمل على خطة تضمن خفض نسب التضخم إلى أقل من 65% بحلول نهاية العام 2023، ثم إلى 36% خلال العام 2024. ومنذ ذلك الوقت، عادت تركيا للسياسات النقدية التقليدية، تحت إدارة وزير المالية الجديد محمد شيمشك.

لكن على الرغم من مرور 10 أشهر على انتهاء الانتخابات الرئاسية، ورغم رفع الفوائد إلى حدود الـ 50% لضبط التضخم والسيطرة على تدهور سعر صرف العملة المحلية، ظلت نسب التضخم عند مستويات تتجاوز الـ 85%.

وبهذا الشكل، تحمل الأتراك تبعات الفوائد المرتفعة، على مستوى كلفة القروض السكنية والاستهلاكية والتجارية، دون التخلص من ظاهرة التضخم وفقًا لأهداف سياسة رفع الفوائد.

وبذلك، لم يحقق فريق عمل أردوغان الاقتصادي الجديد نجاحات كبيرة على المستوى المعيشي، بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة.

بالإضافة إلى ذلك، يرى الكثير من المراقبين أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة أثرت بشكل مباشر على نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة.

فجزء وازن من الجمهور المحافظ والإسلامي، الذي يعتمد عليه أردوغان، رأى أن الحكومة التركية لم تقم بما يكفي من خطوات لدعم قطاع غزة خلال هذه الحرب.

وشهدت تركيا حملات شعبية مطالبة بقطع العلاقات التجارية مع إسرائيل، أو الحد من تدفق النفط الأذربيجاني إلى ميناء أشدود الإسرائيلي عبر تركيا.

من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم تنامي شعبية الأحزاب الإسلامية المعارضة لأردوغان، التي صوبت على عدم تجاوب حزب العدالة والتنمية مع مطالب الشارع، فيما يخص الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

وفي الوقت عينيه، ساهم التباعد بين أردوغان وحركة الإخوان المسلمين في دفع جزء من الجمهور الإسلامي، باتجاه أحزاب محافظة بديلة. ومن هنا أيضًا، يمكن تفسير ابتعاد جزء من جمهور حزب العدالة والتنمية عن الاستحقاق الانتخابي برمته، كموقف عقابي في مواجهة الحزب.

أخيرًا، حصد حزب الشعب الجمهوري نتائج التحولات الإيجابية التي قام بها خلال السنوات الماضية، عبر الانفتاح على الشرائح الاجتماعية المحافظة، وتقديم نسخة جديدة معتدلة ومتسامحة من العلمانية.

وهذا ما فعله الرئيس السابق للحزب كمال كليجدار عام 2022، عبر الاعتذار وطلب الصفح من النساء المحجبات، اللاتي تم حرمانهن في الثمانينات من العمل في المؤسسات الحكومية ودخول الجامعات، بقرارات أيدها حزب الشعب الجمهوري. هذه القرارات، هي ما سمح للحزب باختراق بيئات محافظة، لطالما فشل الحزب في تمثيلها.

خلال الفترة المقبلة، سيحرص أردوغان على تقويم أداء حزبه في السلطة، قبل الوصول إلى استحقاق الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2028.

ومن البديهي أن يحاول أردوغان تصحيح مكامن الخلل في برنامج حكومته الاقتصادي، وخصوصًا على مستوى آليات مكافحة التضخم.

لكن المؤكد هو أن نتائج الانتخابات البلدية أثبتت أن الاستئثار المطلق بالسلطة في تركيا بات متعذرًا، وأن الشعب التركي مازال يملك إرادة المحاسبة اتجاه الحزب الحاكم.

Exit mobile version