المعركة على عقل كير ستارمر: من يوجه سياسات حكومة حزب العمال؟

في أروقة السياسة البريطانية، يحتدم صراع صامت على “عقل” كير ستارمر، رئيس الوزراء وزعيم حزب العمال. بعد نحو عام على تولي الحزب السلطة، وجدت مراكز الأبحاث نفسها في سباق حثيث للتأثير على أجندة الحكومة، التي تواجه تباطؤًا اقتصاديًا، وتراجعًا في شعبيتها، وصعودًا لحركة “إصلاح المملكة المتحدة” بقيادة نايجل فاراج.
شبكة المصالح والتأثير
في وستمنستر، لطالما لعبت مراكز الأبحاث دورًا تكميليًا في صياغة السياسات. لكن مع وصول حزب العمال إلى الحكم، تشهد هذه العلاقة دفعة جديدة. من خلال اجتماعات ومجموعات تركيز ولقاءات خاصة، تتسابق مراكز الفكر لتقديم رؤاها إلى صناع القرار.
ويمكن تقسيم أبرز هذه المراكز إلى ثلاث مجموعات رئيسية:
الثلاثي المؤثر: يتصدر المشهد معهد أبحاث السياسات العامة (IPPR)، ومعهد توني بلير، ومنظمة “العمال معًا”. هذه المراكز تتمتع بروابط وثيقة مع حكومة ستارمر، وتزوّدها باستشارات مباشرة حول السياسات، وتدير مجموعات تركيز أسبوعية تُطلع عليها رئاسة الوزراء.
القادمون الجدد: مجموعة من المراكز الناشئة التي تركّز على قضايا محورية كرّسها ستارمر في خطابه السياسي، كالنمو الاقتصادي. من أبرزها منتدى الحوكمة المستقبلية بقيادة ناثان يويل، ومؤسسة “النمو الجيد”، ومركز التقدم البريطاني. هذه المؤسسات تقدم نفسها كـ”أصدقاء ناقدين”، قادرة على طرح أفكار جريئة لا تتبناها الحكومة مباشرة.
الجهات الراسخة خارج الدائرة: مؤسسات قديمة تتحدث إلى الحكومة من موقع أقل انسجامًا مع أولوياتها، لكنها تظل حاضرة في المشهد. منها مؤسسة “تبادل السياسات” التي رغم جذورها المحافظة تستضيف مبادرات موجهة ليسار الوسط، ومؤسسة “ريزوليوشن” ذات التوجه الاقتصادي الاجتماعي، ومعهد الحكومة الذي تولّى تدريب مستشاري المعارضة قبل تولي السلطة.
تأثير الشخصيات والمصالح المتشابكة
تلعب الشخصيات المحورية دورًا كبيرًا في نسج هذه الشبكة. على سبيل المثال، ماكسويني، رئيس مكتب رئاسة الوزراء، يعدّ العقل المدبّر للتواصل مع مراكز الأبحاث، وقد ورث عن توني بلير نهجًا براغماتيًا يركّز على النتائج والواقعية السياسية. كذلك تتكرّر أسماء مثل مات أبتون من “العمال معًا”، وهاري كويلتر-بينر من معهد أبحاث السياسات العامة، وريان واين من معهد الدراسات البريطانية، في اجتماعات غير رسمية تجمعهم بمسؤولي الحكومة.
في المقابل، تواجه بعض المراكز صعوبات في التأثير، إما بسبب مواقفها السياسية الأقل توافقًا مع خط حزب العمال الحالي، أو لافتقارها للعلاقات الشخصية مع مفاتيح صنع القرار.
معركة الأفكار في ظل تهديد الشعبوية
لا تخفي الحكومة قلقها من تنامي نفوذ الخطاب الشعبوي الذي تمثله حركة “إصلاح المملكة المتحدة”، خاصة في قضايا الهجرة وإعادة التصنيع. ويعترف مسؤولون بأن حزب العمال، رغم وجوده في السلطة، لا يزال في موقف دفاعي على صعيد الأفكار.
أحد أبرز التحديات هو أن حكومة ستارمر تبدو غارقة في إيقاع العمل اليومي، ما يحدّ من قدرتها على التفكير الاستراتيجي طويل الأمد. كما أن وحدة السياسات في داونينج ستريت تعاني من ضعف في إنتاج الأفكار الجديدة، رغم محاولات تعزيز أدائها بقيادة ليز لويد، المخضرمة في حكومات بلير.
مراكز الأبحاث كأدوات مرنة
يرى كثيرون في مراكز الأبحاث وسيلةً للتغلب على بطء وتعقيد البيروقراطية الحكومية. فهي قادرة على العمل بسرعة أكبر، واستكشاف ملفات حساسة لا ترغب الحكومة في تبنيها رسميًا، كما يمكنها المساهمة في تحدي “أرثوذكسية الخدمة المدنية” بطرح رؤى بديلة.
وفي حين يُشيد البعض بتركيز حكومة ستارمر على “التنفيذ الملموس” بدلًا من النقاشات الأيديولوجية، يرى آخرون أن غياب مشروع فكري واضح يعكس ضعفًا في الخيال السياسي، ويعرّض الحزب لفقدان المبادرة في الساحة الفكرية.
ستارمر بين الواقعية والعجز عن التجديد
يعرف عن كير ستارمر أنه يقدّر الكفاءة والوضوح في اتخاذ القرارات، ويميل لتفضيل الحلول الجاهزة على النقاشات النظرية الطويلة. هذه البراغماتية قد تعزز فعاليته في إدارة السلطة، لكنها تثير القلق من أن حكومة العمال قد تتحول إلى إدارة تقنية تخلو من روح المبادرة الفكرية.
وفيما يسعى فريقه لاستثمار علاقاته مع مراكز الأبحاث لتعويض هذا النقص، يتساءل مراقبون عما إذا كان هذا الجهد كافيًا لمواجهة التحديات الأيديولوجية المتصاعدة في المشهد البريطاني.



