رئيسيشئون أوروبية

الاتحاد الأوروبي يتجاوز سياسة “عدم الانتقاء”: انفتاح جديد في علاقته مع بريطانيا بعد “البريكست”

بعد قرابة عقد من التشبث بمبدأ “عدم الانتقاء” في التعامل مع المملكة المتحدة عقب خروجها من الاتحاد الأوروبي، أعلن الاتحاد رسميًا تخلّيه عن هذا الخطاب الذي كان حجر الزاوية في استراتيجيته التفاوضية. هذا التحول يعكس إعادة تموضع تدريجية في طريقة بروكسل إدارته لعلاقته المعقدة مع لندن، ويشير إلى بداية مرحلة جديدة أكثر براغماتية ومرونة.

من شعار صارم إلى خطاب متجاوز
شعار “لا يمكنك اختيار الكرز” الذي طالما ردده ميشيل بارنييه، المفاوض الأوروبي البارز خلال مفاوضات البريكست، ارتكز على فكرة أن السوق الموحدة هي حزمة لا تتجزأ: لا يمكن للمملكة المتحدة الاستفادة من بعض المنافع (مثل التجارة الحرة في السلع) دون قبول الأعباء المرتبطة بها (مثل حرية تنقل الأشخاص). لكن بيدرو سيرانو، سفير الاتحاد الأوروبي في لندن، صرّح مؤخرًا أن هذا الخطاب “لم يعد مفيدًا”، داعيًا إلى تجاوزه نحو نهج أكثر واقعية في التعامل مع العلاقة الثنائية.

وقال سيرانو خلال فعالية في مركز أبحاث “أوروبا المتغيرة” إن العلاقة بين الطرفين “حيوية” ويجب أن تُبنى على قضايا مشتركة ومصالح متبادلة، بدلًا من التمترس خلف شعارات فقدت فعاليتها في السياق الحالي.

قمة لندن: لحظة تحول
هذه المراجعة في الخطاب الأوروبي جاءت في أعقاب قمة لندن الأخيرة، التي أسفرت عن اتفاق الطرفين على بدء مفاوضات بشأن تعزيز التعاون في قطاعي الكهرباء والأغذية الزراعية. هذان القطاعان، اللذان تأثرا بشكل كبير بخروج بريطانيا من الاتحاد، يشكلان أرضية توافق حقيقية، ويمثلان تجسيدًا عمليًا لنهج “الانتقاء الانتقائي” الذي كان مرفوضًا رسميًا حتى وقت قريب.

بحسب تشارلز غرانت، مدير مركز الإصلاح الأوروبي، فإن الاتحاد الأوروبي أبدى استعداده للمرونة حين تبيّن أن مصالحه لن تتضرر، بل قد تستفيد من انفتاح مدروس على السوق البريطانية في بعض المجالات. واعتبر أن “القلق الأوروبي من أن تحذو دول أخرى حذو المملكة المتحدة بدأ يتراجع، مما يسمح بمقاربات أكثر انتقائية”.

من التنظير إلى التطبيق: خريطة طريق جديدة
قمة لندن وضعت أيضًا خريطة طريق واضحة للمفاوضات المقبلة، تشمل ملفات حساسة مثل صيد الأسماك، تجارة الكربون، إنفاذ القانون، وتأشيرات الشباب. ورغم أن المفاوضات الرسمية لا يمكن أن تبدأ إلا بعد صدور تفويضات من الدول الأعضاء، فإن الجانبين أظهرا استعدادًا لتنظيم الأولويات وفقًا للحاجة الزمنية، خصوصًا في مجالي الطاقة والصيد البحري.

ومن المنتظر أن تُمنح هذه التفويضات بدءًا من يوليو/تموز، في حين قد تُفتتح بعض المباحثات بسرعة أكبر، مثل انضمام المملكة المتحدة إلى صندوق الدفاع الأوروبي “SAFE” الذي تبلغ قيمته 150 مليار يورو، والذي لا يتطلب تفويضًا رسميًا.

مقايضة متوازنة: تنازلات محسوبة
خلف الأبواب المغلقة، تضمّنت القمة تنازلات متبادلة: المملكة المتحدة قبلت، بشكل مثير للجدل، تقليص حقوق الصيد الممنوحة لصياديها لصالح أساطيل الاتحاد الأوروبي، في مقابل موافقة بروكسل الضمنية على تجاوز مبدأ “عدم الانتقاء”. هذا التوازن كان ضروريًا لضمان استدامة المسار التفاوضي، بحسب السفيرة البريطانية لدى الاتحاد ليندسي كرويسديل-آبلبي، التي اعتبرت أن “أي تعثّر في أحد العناصر سيُعرّض التفاهم الشامل للخطر”.

ملامح مرحلة جديدة
ما يمكن قراءته من مجمل هذه التطورات هو أن علاقة الاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة تدخل طورًا جديدًا، يتخلى فيه الطرفان تدريجيًا عن مواقفهما العقائدية المتشددة، لصالح تعاون براغماتي يقوم على تحقيق مكاسب متبادلة في ملفات محددة.

هذا لا يعني العودة إلى ما قبل البريكست، ولا يشير إلى انضمام وشيك للسوق الموحدة، لكنه يؤسس لمنهج تفاوضي أكثر مرونة، يُمكن أن يتحول تدريجيًا إلى شراكة مرنة، على غرار نماذج العلاقة التي تجمع الاتحاد الأوروبي مع دول مثل النرويج أو سويسرا، وإن بصيغة بريطانية خاصة تراعي خصوصيات الوضع السياسي في لندن.

في النهاية، فإن تراجع بروكسل عن شعار “لا للانتقاء” ليس اعترافًا بفشل، بل هو اعتراف بأن العلاقة مع بريطانيا تحتاج إلى واقعية سياسية بعد سنوات من الصدامات العقيمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى