انتخابات بولندا: معركة على سيادة القانون ومصير العلاقة مع أوروبا

تتجه أنظار بولندا والاتحاد الأوروبي إلى الانتخابات الرئاسية التي ستجري يوم الأحد، والتي قد ترسم ملامح مستقبل سيادة القانون في البلاد، وتحدد اتجاه علاقتها مع بروكسل. المواجهة تدور بين رافال ترزاسكوفسكي، رئيس بلدية وارسو الليبرالي والمدعوم من رئيس الوزراء دونالد توسك، وبين كارول ناوروكي، مرشح اليمين المتشدد والمدعوم من حزب “القانون والعدالة” الذي حكم البلاد بين عامي 2015 و2023.
الرهانات في هذه الانتخابات تتجاوز الحسابات الداخلية، فبولندا تجد نفسها اليوم أمام مفترق طرق: إما استكمال مسار استعادة استقلال القضاء والعودة إلى التوافق الأوروبي، أو مواصلة الصدام مع مؤسسات الاتحاد تحت قيادة رئيس معادٍ للإصلاحات.
منذ عودة توسك إلى السلطة عام 2023، حاولت حكومته طي صفحة حكم “القانون والعدالة”، الذي أدخل تعديلات جذرية على النظام القضائي، خضعت بموجبها هيئات تعيين القضاة لسيطرة سياسية مباشرة، ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى تجميد أكثر من 100 مليار يورو من التمويل. ورغم استئناف المفوضية الأوروبية ضخ بعض هذه الأموال، إلا أن التقدم الفعلي في تفكيك إرث الحزب اليميني ظل محدودًا، بسبب الدور الحاسم الذي لعبه الرئيس أندريه دودا في تعطيل مشاريع الإصلاح، مستخدمًا الفيتو الرئاسي لإسقاط قوانين أساسية.
ترزاسكوفسكي، المرشح الليبرالي، تعهد خلال حملته بإنهاء حالة الشلل القانوني والإسراع بإصلاحات القضاء. وقال في أحد تصريحاته: “سأوقّع فورًا على قانون يُنهي الفوضى القضائية والازدواجية في المحاكم”. ويعوّل توسك وائتلافه الحاكم على فوزه لتجاوز العقبات المتكررة التي واجهوها في تمرير التشريعات داخل البرلمان، في ظل عدم امتلاكهم أغلبية مؤهلة لتجاوز الفيتو الرئاسي.
أما ناوروكي، فطرح نفسه كمدافع عن إرث “القانون والعدالة”، وتعهّد بالحفاظ على القضاة المعيّنين خلال الحقبة السابقة، وبتجميد أي خطوات تهدف إلى إعادة تشكيل المجلس الوطني للقضاء. ويمثل فوزه استمرارًا لنهج دودا في تعطيل الإصلاحات، ما يعني شل حكومة توسك حتى نهاية ولايتها.
المراقبون الأوروبيون يرون أن سيادة القانون في بولندا ستكون الضحية المباشرة في حال فوز ناوروكي. فالمحكمة الدستورية، التي يهيمن عليها قضاة مُعيّنون من قبل حزب “القانون والعدالة”، لا تزال تستخدم كأداة لعرقلة التشريعات، بينما تتجاهل حكومة توسك قراراتها بدعوى عدم شرعية تشكيلها. كذلك عُرقلت محاولات تغيير قيادات في الإدارات والبعثات الدبلوماسية المرتبطة بالحزب السابق.
ويُحذّر باحثون من أن ترسيخ هذه البنية القانونية، التي يصفها خصوم الحزب السابق بـ”غير الشرعية”، يجعل عملية الإصلاح بالغة التعقيد. إذ لا يمكن إسقاط آلاف الأحكام التي يصدرها قضاة تعيّنوا في عهد “القانون والعدالة” دون خلق حالة فوضى قانونية تهدد استقرار الدولة. كما أن التراجع عن هذه التعيينات دون مساس بحقوق المواطنين يتطلب نهجًا تدريجيًا حذرًا.
رغم أن ترزاسكوفسكي يُنظر إليه على أنه أمل حكومة توسك لاستعادة الزخم السياسي، إلا أن فوزه لن يُعيد بولندا تلقائيًا إلى ما قبل 2015. فالبُنية المؤسسية تغيّرت، وثقة الرأي العام في قدرة الحكومة على تنفيذ وعودها آخذة بالتراجع، وسط مؤشرات على تآكل الدعم الشعبي بسبب تباطؤ وتيرة الإصلاح.
الانتخابات الرئاسية تمثل، بهذا المعنى، اختبارًا حاسمًا لإرادة التغيير في بولندا. فإما أن يُمهَّد الطريق لإصلاحات حقيقية في القضاء تعيد الاعتبار لفصل السلطات، أو تُقفل النافذة المتاحة أمام الحكومة الليبرالية، ليعود الشلل المؤسسي وتتفاقم أزمة الثقة بين وارسو وبروكسل.



