أحدثت مداهمة الشرطة الفرنسية لمقر حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، صباح الأربعاء، هزة سياسية كبيرة في المشهد الفرنسي، ليس فقط بسبب حساسية التوقيت عقب الانتخابات الأوروبية الأخيرة، ولكن أيضًا لأنها تضع الحزب، الذي يشكل اليوم أحد أركان الساحة السياسية، تحت مجهر شبهات خطيرة تتعلق بتمويل الحملات الانتخابية وغسل الأموال.
فبحسب بيان الادعاء العام، يتركّز التحقيق على ما إذا كان الحزب قد لجأ إلى قروض أو وسائل مالية غير قانونية لتمويل حملاته الانتخابية بين يناير 2020 ويوليو 2024، وهي فترة شهدت ثلاث محطات انتخابية حاسمة: الرئاسيات والتشريعيات في 2022، والانتخابات الأوروبية في 2024. ويطرح هذا الملف أسئلة شائكة حول كيفية إدارة الموارد المالية داخل الأحزاب، خصوصًا تلك التي تمرّ بمرحلة صعود سياسي متسارع مثل حزب التجمع الوطني.
أزمة صورة… وصراع سرديات
رئيس الحزب جوردان بارديلا، الذي يسعى منذ توليه قيادة الحزب إلى تقديم صورة أكثر «مؤسساتية» وأقل تطرفاً، بدا في تصريحاته متوترًا، واصفًا المداهمة بأنها «هجوم خطير على التعددية». هذه اللغة التصعيدية تعبّر عن قلق داخل الحزب من الأثر الذي قد تتركه هذه القضية على صورته لدى الرأي العام، خاصة بعدما حقق مكاسب سياسية ملموسة مؤخراً ونجح في اختراق ما كان يُعرف بـ«الحصار الجمهوري» حول اليمين المتطرف.
غير أنّ بارديلا تجاهل الإشارة إلى أن مداهمات كهذه لم تعد أمراً استثنائياً في فرنسا، إذ طالت في السنوات الأخيرة مقار أحزاب من مختلف الأطياف السياسية، من حزب الجمهوريين اليميني الوسطي إلى فرنسا المتمردة اليسارية. لكن خصوصية الوضع تكمن في أنّ أي اتهام رسمي لحزب التجمع الوطني قد يعزز لدى خصومه سردية أن الحزب، رغم محاولاته «تبييض» تاريخه السياسي، لا يزال محاطاً بشبهات فساد وتمويل مشبوه.
جذور الاشتباه… والسيناريوهات المقبلة
ما يضفي على هذه القضية خطورتها هو تزامنها مع سعي التجمع الوطني للترسّخ كلاعب رئيسي في الحياة السياسية الفرنسية، بل وربما لاقتناص السلطة التنفيذية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. أي تطور قضائي سلبي، أو حتى مجرد استمرار التحقيق لفترة طويلة، قد يضرّ بصورة الحزب أمام قطاعات من الناخبين الوسطيين الذين بدأوا يقتربون منه في السنوات الأخيرة.
كما أن التحقيق يطال شبهة غسل أموال واستخدام وثائق مزورة، وهي تهم إذا ثبتت، قد تفضي إلى عواقب قضائية وسياسية ثقيلة. ويُذكر أن قضايا التمويل الانتخابي كانت سبباً في سقوط سياسيين كبار في فرنسا، مثل الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، ما يزيد من حساسية هذا الملف.
في المقابل، إن لم تسفر التحقيقات عن أدلة دامغة، فقد يستثمر التجمع الوطني ذلك لصالحه، مقدّماً نفسه كضحية لـ«تسخير القضاء لأغراض سياسية»، وهي ورقة لعب يجيدها اليمين المتطرف الفرنسي، خاصة في أوقات الحملات الانتخابية.
الامتحان الأصعب: مصداقية «حزب النظام»
يتفق المراقبون على أن أكبر تحدٍّ أمام التجمع الوطني الآن ليس فقط الخروج من هذه القضية سالماً قانونياً، بل الحفاظ على صورته كـ«حزب نظام» يمكن الوثوق به لتولي الحكم. منذ تسلّمه رئاسة الحزب، حاول بارديلا إبعاد الحزب عن إرث زعيمة الحزب السابقة مارين لوبان المرتبط بالتطرف والشبهات المالية. لكن التحقيق الحالي قد ينسف جزءاً من هذا الجهد، على الأقل في المدى القصير.
ولعل الأخطر أن القضية تعيد إلى الواجهة التساؤلات حول مصادر تمويل الأحزاب في فرنسا، خاصة تلك التي تمرّ بتحولات تنظيمية كبيرة، أو التي تتلقى دعماً مباشراً أو غير مباشر من جهات خارجية، وهو ما يُشاع أحياناً عن بعض الأحزاب الشعبوية في أوروبا.
تأثير أوروبي محتمل
بعيداً عن الساحة الفرنسية، قد تكون لهذه التطورات تداعيات أوروبية. فحزب التجمع الوطني جزء من حركة يمينية متطرفة أوسع صارت تُشكّل كتلة مهمة في البرلمان الأوروبي. أي ضربة توجه إليه قد تؤثر على هذه الكتلة وعلى قدرتها على فرض أجندتها داخل المؤسسات الأوروبية، خصوصاً في ملفات حساسة مثل الهجرة، والهوية، والعلاقة مع روسيا.
في الخلاصة، وضعت مداهمة الشرطة حزب التجمع الوطني أمام اختبار شاق: إما أن يخرج من التحقيق بريئاً فيدعم صورته كحزب مؤهل للحكم، أو أن يتحول إلى نموذج جديد يثبت أن محاولات تجميل الأحزاب الشعبوية لا تستطيع إخفاء ممارسات قديمة تتعلق بالفساد أو سوء إدارة الأموال.
الأيام المقبلة ستكون حاسمة في تحديد أي السيناريوهين سيتحقق.

