تواجه الحكومة الألمانية حالة من الترقب والقلق في ظل تحركات الإدارة الأمريكية لإعادة النظر في تمركز قواتها العسكرية في العالم، والتي قد تسفر عن خفض عدد القوات الأمريكية المنتشرة في أوروبا، وعلى رأسها ألمانيا، في خطوة من شأنها زعزعة أحد الأعمدة الأمنية الرئيسية للقارة.
لطالما اعتبرت برلين أن الوجود العسكري الأمريكي حجر زاوية في دفاعها القومي، إلا أن مراجعة “وضع القوة العالمية” التي تقودها وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) باتت الآن مصدر قلق حقيقي لدى المسؤولين الألمان.
واشنطن تراجع التزاماتها… وألمانيا تتوجّس
في قلب هذه المناقشات، سافر وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس إلى واشنطن هذا الأسبوع، في مسعى للحفاظ على التنسيق مع الحليف الأهم، وسط إشارات واضحة على نية واشنطن إعادة نشر قواتها بما يتماشى مع مصالح جديدة، أبرزها تصاعد التوتر في المحيطين الهندي والهادئ.
وقال بيستوريوس للصحفيين عقب اجتماعه مع وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث: “أشرت قبل عامين إلى أن الأمريكيين سيقللون من وجودهم في نهاية المطاف… علينا أن نُدرك أن لديهم مصالحهم الخاصة”.
تصريحاته جاءت لتواكب واقعًا متغيرًا، في وقت تزداد فيه التساؤلات داخل حلف الناتو، بينما تسعى برلين إلى تجنب أي مفاجآت من حليفها الأميركي.
ألمانيا… من الدولة المضيفة إلى الدولة المعنية بالخسارة
يتمركز في ألمانيا حاليًا أكثر من 35 ألف جندي أمريكي موزعين على قواعد متعددة أبرزها قاعدة رامشتاين الجوية ومنطقة غرافنفور للتدريب، التي تُعد أكبر منشأة للجيش الأمريكي خارج الأراضي الأمريكية.
ويشمل الوجود الأميركي أيضًا رؤوسًا نووية متمركزة في بلدة بوشل، في إطار سياسة الردع النووي المشتركة للناتو.
لكن وفقًا لخبراء، فإن وجود القوات الأمريكية في ألمانيا لا يخدم فقط أمن أوروبا، بل يُشكل مركز عمليات حيويًا لأنشطة واشنطن في الشرق الأوسط وإفريقيا، كما أشارت أيلين ماتلي، الباحثة في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية.
ومع وجود تقرير متوقع من البنتاغون في سبتمبر/أيلول، هناك ترجيحات بتقليص جزئي للقوات الأميركية قد يصل إلى سحب 20 ألف جندي تم إرسالهم إلى أوروبا عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في 2022. وفي أسوأ السيناريوهات، قد يصل التقليص إلى 30% من القوات الأميركية الحالية في القارة.
تحوّل استراتيجي في عهد ترامب؟
في ظل إدارة ترامب الثانية، يبدو أن الموقف الأمريكي يتجه إلى خفض الالتزامات الخارجية وزيادة العبء على الحلفاء، وهو ما ترجمه هيغسيث في فبراير/شباط بقوله: “الآن هو الوقت المناسب للاستثمار [في جيوشكم]… لا يمكنكم افتراض أن الوجود الأميركي سيبقى إلى الأبد”.
هذا التوجه الأميركي لا يعكس فقط أولويات استراتيجية جديدة، بل أيضًا ضغطًا داخليًا متزايدًا لخفض الإنفاق الخارجي، مع تصاعد النقاش السياسي حول جدوى تمويل القواعد العسكرية خارج الولايات المتحدة.
برلين تحاول تجنّب الفراغ… وتستعد ماليًا
ردًا على هذا التوجّه، أعلنت الحكومة الألمانية في يونيو/حزيران عن زيادة كبيرة في ميزانية الدفاع، حيث سترتفع من 86 مليار يورو في 2025 إلى 153 مليار يورو بحلول 2029، ما يعادل 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي – في سابقة تاريخية منذ الحرب الباردة.
هذا التحرك الألماني يهدف إلى:
إقناع واشنطن بأن برلين تتحمل مسؤوليتها الأمنية.
تهيئة البنية التحتية لتعويض أي انسحاب أمريكي محتمل.
توجيه رسالة مفادها أن ألمانيا مستعدة لاستضافة القوات الأمريكية ضمن معايير جديدة.
لكن، كما أوضح مسؤول في حلف الناتو: “الانسحاب الأميركي إن حدث، يجب أن يكون منسقًا ومنظمًا، لا صدمةً استراتيجية”.
القلق من “انسحاب مفاجئ”
لا تزال الحكومة الألمانية تفتقر إلى وضوح تام بشأن الخطوات الأمريكية المقبلة، خاصةً وأن إعداد تقرير البنتاغون ما زال قيد التطوير، فيما يبقى الجانب الألماني في موقع المتلقي لا المُشارك الفعلي في صنع القرار.
يقول بيستوريوس: “الأمر يتعلق بتنسيق كيفية تنفيذ القرار، إن وُجد، حتى لا تظهر فجوات خطيرة في القدرات إذا انسحب الأمريكيون من مواقع لا يمكننا ملء فراغها بسرعة”.
وبحسب خبراء، فإن الرهان الألماني الآن يتمثل في مواصلة العمل الدبلوماسي الهادئ والتأكيد على أن أمن أوروبا لا يزال في صالح الولايات المتحدة نفسها.
وبينما يعيد البنتاغون ترتيب أولويات انتشاره العسكري العالمي، تقف برلين في مفترق طرق: هل تنجح في الحفاظ على الشراكة الأمنية مع واشنطن، أم ستُجبر على ملء فراغ قد لا تكون جاهزة له بالكامل؟
ومع ازدياد تعقيدات المشهد الدولي، من أوكرانيا إلى المحيط الهادئ، يبدو أن أوروبا تقف على أعتاب مرحلة جديدة من “الاستقلال الدفاعي التدريجي”، قد لا تكون خيارًا، بل ضرورة وجودية في عصر ما بعد الضمانات الأمريكية المفتوحة.

