رئيسيشئون أوروبية

كيف تُفرغ السياحة المفرطة المدن الإيطالية من جاذبيتها؟

تحولت السياحة في إيطاليا، وعلى وجه الخصوص في نابولي، من محرك اقتصادي مزدهر إلى عامل ضغط خانق يغيّر ملامح المدن التاريخية، ويفرغها من سكانها الأصليين، ويحوّل مراكزها القديمة إلى ما يشبه “مراكز تسوّق مفتوحة” بلا حياة حقيقية.

وأحد أبرز الأمثلة على هذا التحول هو تمثال بولشينيلا البرونزي في نابولي، الذي لم يكن له أي حضور شعبي حقيقي عند إنشائه، لكن منصات التواصل الاجتماعي نسجت حوله أسطورة “طقس محلي يجلب الحظ”. فجأة أصبح لا غنى لأي سائح عن التقاط صورة معه، فيما ظل السكان المحليون يتجاهلونه.

هكذا يُعاد إنتاج “تقاليد” لا تمت بصلة للواقع المحلي، بل تُفصّل على مقاس السياح. النتيجة: فضاءات حضرية تُدار كعروض استهلاكية، فيما تُقصى المجتمعات الأصلية من المشهد.

أزمة الإسكان: السياحة تطرد السكان

أخطر تأثير للسياحة المفرطة يظهر في قطاع الإسكان. فالإيجارات قصيرة الأجل عبر منصات مثل Airbnb نمت بشكل هائل، حتى أن بعض الأحياء الشعبية في نابولي بات فيها نُزُل واحد لكل ثلاثة منازل.

هذا التحول أدى إلى طرد السكان الأصليين، مثل قصة جوزيبي جيجليو، العامل الإنساني والمرشد السياحي، الذي أُجبر على مغادرة شقته بعدما قرر مالكها تحويلها إلى مشروع سياحي مدعوم. ولم تقتصر المعاناة على الإخلاء فقط، بل شهد جيجليو كيف تحولت البناية كلها إلى شقق مؤقتة للسياح، فيما تقلص وجود العائلات الدائمة تدريجيًا.

توضح الناشطة كيارا كابريتي أن هذه الظاهرة تضرب بقوة في الأحياء الفقيرة، حيث لا يملك السكان أدوات مالية أو قانونية للمواجهة. ومع ارتفاع عمليات الإخلاء، يُدفع السكان إلى الأطراف، ليُترك المركز التاريخي للزوار فقط.

أرباح للشركات وخسارة للمدينة

رغم أن أنصار السياحة يروّجون لفوائدها على أصحاب العقارات الصغار، تشير الدراسات إلى أن ثلثي مضيفي Airbnb يمتلكون أكثر من عقار واحد، وأن أكبر خمسة مضيفين يسيطرون على نحو 500 إعلان. وهذا يعني أن العوائد تتدفق إلى شركات أو مستثمرين من مدن غنية مثل ميلانو وروما، بينما لا يبقى للسكان المحليين سوى الأسعار المرتفعة والتهجير.

هكذا تصبح نابولي، كما وصفها عالم الاجتماع فرانشيسكو كاليتشيا، مجرد “بطاقة بريدية” تُستخدم لتسويق صورة إيطاليا، فيما الأرباح الحقيقية تُحوّل شمالًا أو خارج البلاد.

فقدان الأصالة وتحوّل المشهد الحضري

الأصالة التي تجذب السياح في المقام الأول تتآكل بفعل ضغط السياحة نفسها. فالمدينة القديمة في نابولي توصف اليوم بأنها “مطعم بطاطس مقلية في الهواء الطلق”، مكتظة بأكشاك متشابهة ومطاعم متكررة.

هذا التغيير أطاح بمعالم محلية كانت جزءًا من هوية المدينة: مكتبة “بيرونتي” العريقة تحولت إلى حانة، فيما استُبدلت المتاجر التقليدية بمطاعم موجهة حصريًا للسياح.

حتى البنية التحتية الحضرية تغيّرت. اختفت المراحيض العامة، واضطر السكان لاستهلاك خدمات خاصة. حتى المقاعد العامة أُزيلت لمنع بقاء المتشردين أو غير المستهلكين، مما زاد من هشاشة الفقراء وأبعدهم عن المركز التاريخي.

الدين والثقافة… تحت ضغط السوق

لم يسلم حتى المجال الديني من آثار السياحة. الكنائس التي كانت مراكز مجتمعية فقدت روادها المحليين، وتحولت إلى معالم سياحية. يوضح أستاذ القانون الكنسي دومينيكو بيلوتي أن انتقال السكان بعيدًا عن المركز التاريخي يعني أن الكنائس لم تعد تخدم مجتمعات حيّة، بل أصبحت جزءًا من صناعة السياحة، بينما تتجه الجمعيات الدينية إلى لعب أدوار اجتماعية جديدة.

في المجال الثقافي، يشير ناشطون إلى أن الكثير من الأنشطة التي كانت مجانية أصبحت مدفوعة، ما يحوّل الثقافة إلى سلعة للسياح بدل أن تكون خدمة للمجتمع المحلي.

غياب التشريعات وتفاقم الأزمة

محاولات بعض البلديات تنظيم أزمة Airbnb باءت بالفشل بسبب غياب دعم وطني. حكومة جورجيا ميلوني على العكس سهّلت تغيير استخدام المباني لصالح السياحة، بل طعنت في قوانين محلية مثل قانون توسكانا الذي كان يهدف لتقييد الإيجارات قصيرة الأجل.

المعارضة ترى أن الحل لا بد أن يكون قانونًا وطنيًا يضع حدًا للإيجارات القصيرة ويحدد نسبًا قصوى لها داخل الأحياء، لضمان بقاء السكان الأصليين.

مفارقة قاتلة: السياحة تمحو ما جاءت من أجله

المفارقة أن السياحة المفرطة غالبًا ما تُفقد المدن الإيطالية الميزات التي جذبت الزوار إليها: الأصالة، الحياة الشعبية، والمشهد الثقافي المحلي. بل إن بعض السياح بدأوا يشتكون من التشابه المفرط في المتاجر والمطاعم، وفقدان التنوع الذي يُميز المدينة.

وبينما قد تمنح السياحة المفرطة المدن الإيطالية دخلًا سريعًا، لكنها تسلبها روحها. من نابولي إلى فلورنسا والبندقية، تتكرر القصة: السكان يُطردون، الأحياء تتحول إلى مسارح استهلاكية، والثقافة المحلية تُسلّع.

وبدون تخطيط سياسي شامل وخطة بديلة، يحذّر الخبراء من أن إيطاليا ستفقد في النهاية جاذبيتها الأصلية، وتتحول مدنها التاريخية إلى متاحف مفتوحة بلا سكان، فيما ينهار الأساس الذي قامت عليه جاذبية السياحة في المقام الأول.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى