الصين تختبر طريقاً سريعاً إلى أوروبا عبر القطب الشمالي الذائب

تستعد الصين لإطلاق سفينة الحاويات «جسر إسطنبول» من ميناء نينغبو-تشوشان إلى ميناء فيليكستو البريطاني عبر الساحل الشمالي لروسيا، في رحلة تستغرق 18 يومًا فقط بمرافقة كاسحات جليد.
وهذه ليست المرة الأولى التي تُبحر فيها سفينة صينية عبر القطب الشمالي، لكن الهدف هذه المرة هو تحويل التجربة إلى خدمة منتظمة بين موانئ آسيوية وأوروبية مثل روتردام وهامبورغ وغدانسك.
ويشير الباحث مالتي همبرت من «معهد القطب الشمالي» إلى أن تغير المناخ غيّر الخريطة الجيوسياسية للمنطقة: قبل 20 عامًا كان القطب الشمالي متجمداً بالكامل.
اليوم أصبح ممكناً إنتاج النفط والغاز هناك، كما أصبح ممكناً فتح طرق شحن جديدة.
والطريق عبر القطب الشمالي أقصر بنسبة 40% من مسار قناة السويس ويشهد توترات جيوسياسية أقل.
ويرى همبرت أن القطب الشمالي هو أول منطقة كبرى على مستوى العالم تتحول جيوسياسيًا بفعل المناخ، حيث تنكشف موارد وطرق ملاحية لم تكن متاحة من قبل.
تجربة عملية أقرب إلى خطوط الشحن المنتظمة
الرحلات الصينية السابقة اقتصرت على نقل مباشر إلى هامبورغ أو سانت بطرسبرغ. أما اليوم، فالتجربة تحاكي خطوط الحاويات التقليدية مع محطات توقف متعددة.
ويؤكد الخبير بيتر ساند من «زينيتا» أن الصين جربت الفكرة سابقاً لكنها تسعى الآن إلى إرساء روتين موسمي.
مع ذلك، يبقى الحجم محدودًا: ما يتم نقله يعادل 1% فقط من تجارة الشرق الأقصى–شمال أوروبا. ولن يكون للطريق قيمة إلا عندما يكون الطلب مرتفعًا وزمن الرحلة ميزة حاسمة.
مكاسب محتملة: من الهدايا إلى السيارات
نجاح الرحلة قد يمنح الصين أسبقية لوجستية. على سبيل المثال:
شحن مستلزمات عيد الميلاد يصل عادة متأخرًا في نوفمبر مسببًا ازدحامًا في موانئ أوروبا.
عبر القطب الشمالي، يمكن أن تصل البضائع قبل 3–4 أسابيع، حين تكون الموانئ أقل ازدحامًا.
كما قد يصبح المسار جذابًا لقطاع السيارات الكهربائية، حيث تُنقل شحنات ضخمة دفعة واحدة من الصين إلى أوروبا دون توقفات وسيطة، وهو ما قد يتحقق خلال 10–15 عامًا.
مخاطر بيئية جسيمة
الفرصة التجارية تأتي محمّلة بمخاطر على البيئة:
القطب الشمالي يسخن بمعدل 3–4 مرات أسرع من بقية العالم.
انبعاثات الكربون الأسود من وقود السفن أكثر تدميراً بخمس مرات عند إطلاقها قرب الثلوج.
بطء الاستجابة لانسكابات النفط في البيئة القطبية يزيد حجم الكارثة.
السفينة المستخدمة «جسر إسطنبول» عمرها 25 عامًا وغير معززة ضد الجليد، ويرجح أن تستخدم زيت الوقود الثقيل رغم حظره من المنظمة البحرية الدولية عام 2024 مع وجود ثغرات قانونية.
ويحذر الخبراء من أن أي حادث تسرب في هذه البيئة سيكون كارثياً ويستمر أثره لسنوات.
آفاق المستقبل والتنظيم الدولي
يرى همبرت أن الرحلة الصينية لا تهدف إلى أرباح فورية بقدر ما تهدف إلى بناء خبرة استراتيجية وتدريب الأطقم.
أما الناشطون البيئيون فيرون أن الفرصة التالية لتشديد القواعد ستأتي في فبراير 2026 حين تجتمع لجنة فرعية في المنظمة البحرية الدولية لمناقشة لوائح أكثر صرامة للوقود في القطب الشمالي.
وعليه فإن رحلة «جسر إسطنبول» ليست مجرد مغامرة ملاحية، بل إشارة مبكرة إلى تحول عميق: القطب الشمالي لم يعد هامشًا جغرافيًا، بل مسرحًا ناشئًا للتجارة والتنافس الدولي.
ومع أن قناة السويس ستبقى ركيزة التجارة العالمية، فإن الممر القطبي الشمالي يبرز تدريجيًا كخيار مكمل يحمل في طياته مزيجًا من الفرص الاقتصادية والمخاطر البيئية والجيوسياسية.



