فرنسا: تجميد إصلاح التقاعد يربك يسار الوسط ويحوّل الميزانية إلى “فخ” سياسي

بدا للوهلة الأولى أن الاشتراكيين حققوا نصرًا تكتيكيًا هذا الأسبوع بإجبار الحكومة على تجميد الزيادة المقرّرة في سنّ التقاعد بموجب إصلاح 2023 المثير للجدل.
لكن سرعان ما اتضح أن هذا “التراجع” يفتح معضلة أعقد لليسار الوسطي: كيف يُثبِّتون الفوز الرمزي من دون أن يقعوا في فخّ تمرير “ميزانية الضمان الاجتماعي” التي تتضمن تخفيضات في الإنفاق، أو في المقابل يدفعون الحكومة إلى الحكم بمرسوم؟
وقد أبقى رئيس الوزراء “سيباستيان ليكورنو” الباب مواربً، فالتجميد – الذي أنقذ حكومته من أزمة فورية – ليس أكثر من “استراحة مشروطة”؛ إذ ربط خسارته المالية المقدّرة بـ “400 مليون يورو في 2026” بإيجاد وفورات مقابلة لضبط الإنفاق العام.
بهذا، تتحوّل معركة التقاعد إلى “مساومة ميزانياتية”: إمّا أن يصوّت الاشتراكيون على موازنة اجتماعية لا يرتاحون لبنودها، وإمّا تلوِّح الحكومة باستخدام أدواتها الدستورية لتمرير الأجندة من دون أغلبية، ما يُضعف البرلمان ويعيد مشهد 2023.
سياسيًا، تمسك كتلة الحزب الاشتراكي (69 نائبًا) “بمفتاح الترجيح” في الجمعية الوطنية. غير أن قيادتها تقرّ بأن الرهان “محفوف بالمخاطر”: الثقة بتعهدات رئيس الوزراء بخصوص التجميد مقابل ميزانية قد تنطوي على اقتطاعات غير شعبية. أحزاب المعارضة الأخرى سارعت لتصوير إعلان التجميد على أنه “تكتيك مراوغة”.
ووصف رئيس لجنة المالية النائب اليساري “إريك كوكريل” المشهد بـ”مزيج من الارتجال وربما شيء من الاحتيال”، في حين حذّر حلفاء ماكرون الوسطيون من أن قرار التعليق “غير نافذ” ما لم يصوّت عليه البرلمان رسميًا.
في جوهر الملف، ينصّ إصلاح 2023 على رفع الحدّ الأدنى لسنّ التقاعد بمعدل ثلاثة أشهر سنويًا حتى 2030.
والمقترح الراهن هو “إيقاف العدّاد عند 62 عامًا و9 أشهر حتى يناير/كانون الثاني 2028″، أي بعد الاستحقاق الرئاسي المقبل، ما يضفي على التجميد طابعًا انتخابيًا بامتياز.
ويوم الثلاثاء، منح الرئيس “إيمانويل ماكرون” ضوءًا أخضر ضمنيًا لليكورنو للمضي في التعليق، في اعتراف بأن هذا القانون – الذي فُرض سابقًا عبر آلية دستورية من دون تصويت – صار “عبئًا سياسيًا” يطبع ولايته الثانية ويثير تعبئة اجتماعية متجددة كلما طُرح.
اقتصاديًا، يعكس تقدير كلفة التجميد (400 مليون يورو في 2026) “ضيق الهوامش المالية” تحت قيود العجز والدَّين الأوروبيين. الحكومة تَعِدُ بتعويض الفجوة عبر “المدخرات”، لكن الاشتراكيين يخشون أن تُترجم هذه الكلمة إلى “اقتطاعات مؤلمة” في بنود الرعاية الصحية والتعويضات.
وفي حال رفض البرلمان الموازنة، تستطيع السلطة التنفيذية اللجوء إلى أدوات تمكّنها من “فرض النصّ”، ما يبدّل توازن القوى ويحرج المعارضة التي ستُتّهم حينها بالتسبب بفراغٍ مالي أو بتسييس معاشات المتقاعدين.
استراتيجيًا، يقف يسار الوسط أمام “معادلة خاسرة/خاسرة”: التصويت مع الحكومة يهدّد قاعدته النقابية والاجتماعية ويتهمه بالتواطؤ، والتصويت ضدّها قد يُعيد سيناريو “الحكم بالمراسيم” ويُسقط مكسب التجميد.
لذلك، يبحث الاشتراكيون عن “مقايضة محددة”: تحصين قانوني واضح لتعليق الزيادات حتى 2028، مع تعديلات على بنود الإنفاق الاجتماعي، وجدول زمني شفاف لإعادة تقييم التوازنات الاكتوارية لنظام التقاعد.
في المحصلة، أخرج تجميد إصلاح التقاعد الحكومة من زاوية ضيقة، لكنه “أدخل المعارضة إلى متاهة” الحسابات: بين شرعية اجتماعية تطالب بردّ الاعتبار لما حدث في 2023، وضرورات ضبطٍ مالي لا فكاك منها.
وحتى إشعارٍ آخر، سيبقى “نصف التراجع” هذا اختبارًا لمدى قدرة ماكرون وليكورنو على هندسة أغلبية ظرفية… ولقدرة الاشتراكيين على “التمييز بين الفوز الرمزي” والفاتورة السياسية التي قد تلحقه.



