رئيسيشؤون دولية

بعد سنوات من الانفصال: بريطانيا تبحث عن طريق العودة إلى بروكسل

مع تزايد المؤشرات على التباطؤ الاقتصادي في بريطانيا وتراكم الضغوط على حكومة كير ستارمر، بدأت لندن تتحدث بصوت أكثر وضوحًا عن الحاجة إلى إصلاح ما أفسده خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لكن تقاربها الجديد يصطدم بواقع مختلف في بروكسل؛ فالاتحاد الأوروبي غارق في أزماته ولا يملك شهية سياسية لفتح ملفات ثقيلة مع المملكة المتحدة.

في الأيام الأخيرة، اعترف وزراء في حكومة ستارمر صراحةً بتأثيرات “خروجٍ فوضوي” ألحق ضررًا كبيرًا بالاقتصاد البريطاني، وأصبح الحديث — بلغة غير مسبوقة — يدور حول ضرورة بناء علاقة أوثق مع الاتحاد الأوروبي.

ومع ذلك، تبقى المساحة السياسية المتاحة للحكومة البريطانية ضيقة، في ظل خطوط حمراء رسمها ستارمر نفسه: لا عودة للاتحاد الجمركي، ولا للمسوق الموحدة، ولا لحرية التنقل، ولا لأي خطوة قد تُقرأ كمسار نحو إعادة العضوية.

ورغم هذا الوضوح، يعترف قادة حزب العمال بأن الوضع لم يعد يحتمل الصمت. فقد جاءت ميزانية المملكة المتحدة الأخيرة محمّلة بتوقعات نمو ضعيفة، فدفع ذلك رئيس الوزراء ووزير ماليته للحديث عن الحاجة إلى “التقارب العملي” مع بروكسل، بل ورفع مستوى ملف العلاقات الأوروبية داخل مجلس الوزراء من خلال تعيين نيك توماس سيموندز وزيرًا مسؤولًا عن “إعادة الضبط” مع الاتحاد الأوروبي.

لكن بينما يتحدث البريطانيون عن “العودة إلى أوروبا”، يبدو أن الاتحاد الأوروبي مشغول بما فيه الكفاية.

ففي بروكسل، تتصدر الحرب الروسية على أوكرانيا جدول الأعمال، إلى جانب أزمات الطاقة، والمفاوضات الداخلية حول إصلاح الأسواق، والاحتجاجات في دول شرق أوروبا، والصراع المستمر حول ميزانيات الدفاع والتحولات الخضراء.

ووفق دبلوماسيين أوروبيين، لا يرى الاتحاد الأوروبي أي مكسب سياسي أو اقتصادي عاجل من تخصيص وقت كبير لإعادة التفاوض مع لندن.

وتبرز أمثلة حديثة على هذا الفتور، منها انهيار مفاوضات انضمام المملكة المتحدة لبرنامج SAFE الأوروبي بعد خلاف حول قيمة المساهمة المالية البريطانية.

كما تُظهر وثائق داخلية للاتحاد الأوروبي أن أغلب الملفات المفتوحة مع بريطانيا — مثل تدابير الصحة النباتية، واتفاقيات الانبعاثات، وبرامج التعليم — تتقدم ببطء شديد، ما يعكس ضعف الاهتمام السياسي.

ويؤكد خبراء الاقتصاد أن خطة ستارمر لإعادة ضبط العلاقة مع الاتحاد الأوروبي لن تكون كافية لإحداث تحول اقتصادي محسوس. إذ تشير تقديرات مركز الإصلاح الأوروبي إلى أن حزمة إجراءات “إعادة الضبط” — في حال تنفيذها بالكامل — ستضيف فقط ما بين 0.3% و0.7% إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال عقد كامل.

وفي المقابل، يقدّر اقتصاديون من بنك إنجلترا وجامعة ستانفورد أن الضرر الذي سبّبه البريكست وصل إلى 8% من الناتج المحلي.

ويجعل هذا الفارق الضخم بين الخسائر والمكاسب المحتملة أي إصلاح محدود غير ذي جدوى، ما يطرح سؤالاً حساسًا: هل تضطر حكومة ستارمر في النهاية إلى تجاوز خطوطها الحمراء؟.

وتسري تكهنات في لندن بأن بعض الشخصيات داخل الحكومة بدأت تطرح بهدوء سيناريو العودة إلى الاتحاد الجمركي.

ويكشف مسؤولون أن هذا الخيار نوقش بالفعل قبيل الميزانية، لكنه رُفض خوفًا من كسر الوعود الانتخابية.

إلا أن اقتصاديين كبار يرون أن العودة إلى الاتحاد الجمركي هي “الرافعة الأسهل” لتعزيز النمو، وأن الأمر مسألة وقت ليس إلا.

مع ذلك، لا تبدو بروكسل مستعدة لفتح هذا الباب قريبًا. فالمفاوضات بشأن ملفات صغيرة تستغرق شهورًا، ما يجعل أي مشروع لإعادة دمج بريطانيا اقتصاديًا داخل المنظومة الأوروبية يحتاج سنوات طويلة.

ويقول دبلوماسي في الاتحاد الأوروبي: “إن المملكة المتحدة، وليس الاتحاد، هي من تحتاج هذه الشراكة لتعزيز نموها.”

سياسيًا، بدأ حزب العمال بكسر محرمات البريكست خلال الصيف، حين شن الوزير سيموندز هجومًا علنيًا على إرث سلفه بوريس جونسون، مؤكدًا أن سياسات الانفصال أنتجت “بيروقراطية متضخمة وأكوامًا من الأوراق وتعقيدات غير ضرورية”.

وقد لاقى الخطاب صدى لدى الناخبين الذين بدأوا يعانون آثار الضرائب المرتفعة والخدمات العامة المتدهورة.

ومع أن حزب العمال لم يعلن بعد أي تحوّل جوهري في سياسته تجاه أوروبا، إلا أن إشارات عديدة توحي بأن الحكومة تدرك حجم الأزمة وقد تتجه تدريجيًا نحو خطوات أكبر — سواء اعترفت بذلك أو لا.

في النهاية، يبدو المشهد واضحًا: لندن تريد الاقتراب من بروكسل، لكن بروكسل لا ترى ضرورة للاستعجال. وبين الرغبة البريطانية والبرود الأوروبي، يبقى الاقتصاد البريطاني عالقًا في فراغ صنعه البريكست، بينما يبحث ستارمر عن طريقٍ يبدو أن الوصول إليه يحتاج إلى أكثر من مجرد “إعادة ضبط”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى