رئيسيشئون أوروبية

كيف هدمت ألمانيا ركيزة عملاقة من ركائز سياسة المناخ في الاتحاد الأوروبي؟

لم يكن حظر محركات الاحتراق الداخلي ابتداءً من عام 2035 مجرد تشريع بيئي عادي، بل شكّل حجر الزاوية في أجندة المناخ الأوروبية التي طبعت الولاية الأولى لرئيسة المفوضية أورسولا فون دير لاين.

غير أنّ ما بدا قبل عامين إنجازًا تاريخيًا لا رجعة عنه، انهار عمليًا خلال أسابيع قليلة فقط، بعد تحرك سياسي مكثف قادته ألمانيا وحزب الشعب الأوروبي، ليُعاد رسم ملامح سياسة المناخ في الاتحاد من جديد.

وقالت صحيفة بوليتيكو إن هذا التحول لم يأتِ نتيجة مراجعة علمية مفاجئة أو تغيّر جذري في معطيات المناخ، بل بفعل صفقة سياسية في اللحظات الأخيرة داخل برلين، دفعت المفوضية الأوروبية إلى التخلي عن الحظر الكامل واستبداله بهدف أقل طموحًا: خفض انبعاثات السيارات الجديدة بنسبة 90% بعد عام 2035 بدلًا من تصفيرها بالكامل.

وتعني هذه الصيغة الجديدة عمليًا الإبقاء على محركات الاحتراق الداخلي، سواء التقليدية أو الهجينة القابلة للشحن، ضمن مزيج السوق الأوروبي لعقود مقبلة، شريطة تعويض انبعاثاتها بوقود بديل وتقنيات “خضراء”.

وقد لعبت ألمانيا، موطن أكبر صناعة سيارات في أوروبا، الدور الحاسم. فبعد أن كانت تميل إلى الامتناع أو التردد، انتقلت خلال ثلاثة أسابيع فقط إلى موقع المواجهة المباشرة مع المفوضية، مدعومة بحزب الشعب الأوروبي، العائلة السياسية الأكبر في البرلمان الأوروبي.

وقد قلب هذا الضغط المركّز ميزان القوى داخل بروكسل، وأجبر المفوضية على التراجع عن أحد أكثر تشريعاتها طموحًا ورمزية.

والحجّة الأساسية لبرلين وحلفائها تمثلت في الدفاع عن القدرة التنافسية للصناعة الأوروبية.

فبحسب هذا المعسكر، فإن الحظر الكامل لمحركات الاحتراق يقيّد شركات السيارات الأوروبية في سباق عالمي شرس، ويمنح أفضلية غير عادلة للمنافسين الصينيين الذين يهيمنون على سوق السيارات الكهربائية منخفضة الكلفة.

كما جادلوا بأن التشريع الأصلي يسلب المستهلكين “حرية الاختيار”، ويفرض مسارًا تكنولوجيًا واحدًا بقوة القانون.

ووجد هذا المنطق صدىً سياسيًا متزايدًا بعد انتخابات البرلمان الأوروبي عام 2024، التي عززت موقع حزب الشعب الأوروبي.

رئيس الحزب مانفريد ويبر، وهو ألماني أيضًا، جعل من إلغاء الحظر أولوية قصوى، واعتبر التعديل الجديد “انتصارًا كبيرًا” و”تخفيضًا هائلًا” في متطلبات 2035.

وفي خطابه، قدّم التراجع عن الحظر بوصفه تصحيحًا “عقلانيًا” لنهج وصفه ضمنيًا بالأيديولوجي، مؤكدًا أن معركة المناخ لا يمكن ربحها دون حسابات اقتصادية واقعية.

لكن حجم التراجع لا يقتصر على الرمزية السياسية. فالسيارات مسؤولة عن نحو 16% من انبعاثات الاتحاد الأوروبي، وكانت تمثل أكثر عناصر سياسة المناخ وضوحًا لدى الرأي العام.

ووفق تقديرات المفوضية نفسها، فإن خفض الهدف إلى 90% يعني أن ربع السيارات المباعة بعد 2035 — أي نحو 2.6 مليون مركبة — ستستمر في إطلاق ثاني أكسيد الكربون.

وبالنسبة للمدافعين عن المناخ، يشكّل ذلك ضربة مباشرة لمسار الحياد الكربوني المعلن لعام 2050.

والمفارقة أن التعديل الجديد لم يُرضِ أحدًا تقريبًا. فاليسار والخضر يرونه تراجعًا خطيرًا لن ينقذ المناخ ولن ينقذ الصناعة في آن واحد.

ويشير منتقدو التعديل إلى أن المشكلة الحقيقية لصناعة السيارات الأوروبية ليست قانونًا سيدخل حيز التنفيذ بعد عشر سنوات، بل تراجع قدرتها التنافسية عالميًا، خاصة في الصين، وانكماش أسواق محركات الاحتراق على المدى الطويل.

من هذا المنظور، فإن الإصرار على الإبقاء على هذه المحركات يُعد، بنظرهم، هروبًا إلى الأمام لا استراتيجية صناعية قابلة للحياة.

في المقابل، ترى أحزاب اليمين المتطرف أن التنازل لا يزال غير كافٍ، وتهاجم المفوضية من حيث المبدأ، معتبرة أن أصل المشكلة هو “تدخل بروكسل” في خيارات المستهلكين وأنماط حياتهم.

وهكذا، لم يؤدِّ التحول الألماني إلى توافق أوروبي، بل كشف هشاشة واحدة من أهم ركائز سياسة المناخ في الاتحاد. فما سُوّق يومًا كمسار لا رجعة فيه، تبيّن أنه قابل للتفكيك عندما تتقاطع المصالح الصناعية مع الحسابات السياسية.

وفي هذا المعنى، لم تهدم ألمانيا مجرد تشريع، بل كسرت وهم الإجماع طويل الأمد حول مستقبل المناخ الأوروبي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى