Site icon أوروبا بالعربي

لماذا يُعدّ الذكاء الاصطناعي كابوساً للاتحاد الأوروبي؟

ضوابط الذكاء الإصطناعي

بينما يتسارع تطور الذكاء الاصطناعي ليعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه في موقع متوتر: يمتلك العقول والمواهب والأبحاث، لكنه يخسر السباق على تحويلها إلى شركات عملاقة ومنصات مؤثرة.

في المقابل، تواصل الولايات المتحدة توسيع هيمنتها على هذا القطاع، مستفيدة من بيئة تنظيمية أكثر تحرراً وثقافة تميل إلى المخاطرة. هذا التباين لا يعود فقط إلى قرارات سياسية معاصرة، بل إلى جذور تاريخية وثقافية تمتد لنحو قرن.

وقصة تطبيق Poke.com، الذي يروج لحلم أمريكي بالوقوع في غرام باريس والاستقرار في أوروبا، تختصر المفارقة. فالشركة التي تقف خلف التطبيق أُسست في الولايات المتحدة على يد مهاجرين ألمان، بعدما وجدوا أن وادي السيليكون هو المكان الوحيد القادر على احتضان طموحاتهم في مجال الذكاء الاصطناعي.

كما أن الأرقام تعكس حجم المشكلة. فبحسب تقارير استثمارية حديثة، استحوذت الشركات الأمريكية على نحو 80 في المئة من الاستثمارات في الذكاء الاصطناعي التوليدي في الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل خلال عامي 2023 و2024.

وفي عام 2024 وحده، أنتجت الولايات المتحدة 40 نموذجاً بارزاً للذكاء الاصطناعي، مقابل 15 نموذجاً في الصين وثلاثة فقط في أوروبا.

كما انتقلت مئات الشركات الناشئة الأوروبية الواعدة إلى الولايات المتحدة، مدفوعة بإغراء التمويل السخي وسهولة التوسع.

وأحد الأسباب الجوهرية لهذا النزوح هو البيئة التنظيمية. فالاتحاد الأوروبي يُعدّ الأكثر تشدداً عالمياً في تنظيم التكنولوجيا، خصوصاً في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي والبيانات.

وبينما ترى بروكسل أن هذه القوانين تحمي المواطنين من الانتهاكات والمخاطر، يعتبرها كثير من رواد الأعمال عائقاً خانقاً يبطئ الابتكار ويجعل إطلاق المنتجات الجديدة أكثر كلفة وتعقيداً.

وفي الأشهر الأخيرة، بدأت أصوات داخل أوروبا نفسها تطالب بتخفيف هذه القيود. شركات تكنولوجيا، وحكومات وطنية، وحتى المفوضية الأوروبية، دعت إلى تأجيل تطبيق بعض بنود التشريعات أو إعادة تقييم الإطار التنظيمي بأكمله.

غير أن هذا النقاش يصطدم بجدار ثقافي عميق، يتمثل في نظرة أوروبية حذرة للتكنولوجيا.

 

وتحتل الخصوصية موقعاً مركزياً في هذا الحذر. في دول مثل ألمانيا، يُنظر إلى جمع البيانات بعين الريبة، ويُقارن الإفصاح عن رقم الهاتف بحساسية الإفصاح عن رقم الضمان الاجتماعي في الولايات المتحدة.

وتعد هذه الحساسية نتاج تجارب تاريخية قاسية، من استغلال النظام النازي للبيانات لتحديد هوية اليهود، إلى شبكة المراقبة الواسعة التي أقامها جهاز “شتازي” في ألمانيا الشرقية. بالنسبة لكثير من الأوروبيين، فقدان الخصوصية ليس تهديداً نظرياً، بل ذكرى جماعية حية.

في المقابل، تطورت الثقافة التكنولوجية الأمريكية، وخصوصاً في وادي السيليكون، على أسس مختلفة تماماً. هناك إيمان عميق بأن التقدم التكنولوجي يجب أن يتقدم بسرعة، وأن التنظيم يجب أن يأتي لاحقاً وبحدود ضيقة.

وسمحت هذه العقلية، التي تمزج الليبرتارية الاقتصادية بحلم التقدم غير المقيد، لشركات التكنولوجيا بالنمو السريع، حتى وإن رافق ذلك مخاطر أخلاقية أو اجتماعية.

وانعكس هذا التباين الثقافي بوضوح في التشريعات. فالقانون الأوروبي العام لحماية البيانات (GDPR)، الذي دخل حيز التنفيذ عام 2018، كرس حقاً صارماً في الخصوصية، وقيد بشدة قدرة الشركات على جمع البيانات واستغلالها.

ورغم أنه أصبح نموذجاً عالمياً، إلا أن كلفته على شركات الذكاء الاصطناعي في أوروبا كانت باهظة، إذ حدّ من قدرتها على المنافسة والتوسع مقارنة بنظيراتها الأمريكية.

ويرى منتقدون أن الاتحاد الأوروبي يتصرف بعقلية القرن العشرين لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، مفضلاً السلامة على السرعة. في حين يرى المدافعون عن هذا النهج أن أوروبا تدفع ثمناً أقل على المدى البعيد، لأنها تضع الإنسان وحقوقه في صلب التطور التكنولوجي.

في المحصلة، يُعدّ الذكاء الاصطناعي كابوساً للاتحاد الأوروبي لأنه يضعه أمام معضلة وجودية: إما الحفاظ على نموذج تنظيمي يحمي الخصوصية ويحد من المخاطر، أو المجازفة بتخفيف القيود للحاق بسباق عالمي لا ينتظر المترددين. وبين هذين الخيارين، يتحدد مستقبل أوروبا في عصر الذكاء الاصطناعي.

Exit mobile version