إدراك متزايد داخل العواصم الأوروبية بأن الأزمة الحقيقية سببها إدارة ترامب

بينما يستعد قادة الاتحاد الأوروبي للاجتماع في بروكسل يوم الخميس لمناقشة أحد أكثر الملفات حساسية منذ اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، يطفو على السطح إدراك متزايد داخل العواصم الأوروبية بأن الأزمة الحقيقية لم تعد محصورة في تحفظات بلجيكا القانونية أو الخلافات التقنية حول الأصول الروسية المجمدة، بل في الضغط السياسي المباشر وغير المسبوق الذي تمارسه إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الاتحاد الأوروبي نفسه.
وقد كشف الخلاف الدائر حول استخدام نحو 210 مليارات يورو من الأصول الروسية المجمدة لتمويل أوكرانيا، عن انقسام أعمق داخل القارة الأوروبية: انقسام لا يتعلق فقط بكيفية دعم كييف، بل بطبيعة العلاقة مع واشنطن، وحدود الاستقلال السياسي الأوروبي في عالم يتغير بسرعة.
فوفق مسؤولين أوروبيين مطلعين على التحضيرات للقمة، لم تعد الولايات المتحدة شريكًا داعمًا، بل باتت لاعبًا يسعى صراحة إلى إضعاف وحدة الاتحاد الأوروبي والتأثير على قراراته الاستراتيجية.
وفي أكتوبر الماضي، فشل القادة الأوروبيون في التوصل إلى اتفاق بشأن استخدام الأصول الروسية، وأُلقي اللوم حينها على بلجيكا، التي تستضيف معظم هذه الأصول عبر مؤسساتها المالية. غير أن الأشهر التالية أظهرت أن المشكلة أوسع من موقف دولة واحدة.
فخلف الكواليس، كانت إدارة ترامب تضغط بشكل مكثف على عدد من الحكومات الأوروبية، ولا سيما تلك التي تعتبرها “أكثر ودًّا”، لرفض الخطة الأوروبية، بحسب أربعة مسؤولين تحدثوا لموقع “بوليتيكو”.
وأدى هذا الضغط الأميركي، الذي اتخذ شكل اتصالات مباشرة وتجاوزًا لقنوات بروكسل الرسمية، إلى اتساع دائرة المعارضين داخل الاتحاد، مع انضمام دول مثل إيطاليا وبلغاريا ومالطا والتشيك إلى المعسكر المتحفظ.
وبهذا، تحولت مسألة تمويل أوكرانيا من نقاش قانوني ومالي إلى اختبار سياسي لوحدة الاتحاد الأوروبي وقدرته على الصمود في وجه تدخل خارجي صريح.
وعبر المستشار الألماني فريدريش ميرز بوضوح عن خطورة الموقف، محذرًا من أن فشل الاتحاد الأوروبي في التوصل إلى اتفاق سيُلحق “ضررًا بالغًا لسنوات” بمكانته الدولية.
فالعجز عن اتخاذ قرار حاسم في لحظة مفصلية كهذه سيبعث برسالة ضعف إلى العالم، مفادها أن الاتحاد غير قادر على الدفاع عن نظامه السياسي ولا على حماية مصالحه الاستراتيجية.
وتكمن خطورة التأخير في أن أوكرانيا تواجه عجزًا ماليًا يقدّر بـ71.7 مليار يورو العام المقبل. وإذا لم يبدأ تدفق الأموال بحلول أبريل، ستُجبر كييف على خفض الإنفاق العام، ما قد ينعكس سلبًا على قدرتها العسكرية ومعنويات شعبها، بعد ما يقرب من أربع سنوات من الحرب الشاملة.
وبالنسبة لكثير من القادة الأوروبيين، فإن إفلاس أوكرانيا لا يعني فقط أزمة إنسانية واقتصادية، بل أيضًا إضعاف موقعها التفاوضي في أي محادثات سلام مقبلة.
في هذا السياق، لا تُخفي إدارة ترامب رؤيتها المختلفة. فبحسب مسودة مسربة لخطة سلام يجري التفاوض عليها بين البيت الأبيض والكرملين، تسعى واشنطن إلى استخدام جزء من الأصول الروسية المجمدة في إطار عملية إعادة إعمار تقودها الولايات المتحدة، لا الاتحاد الأوروبي.
كما يضغط ترامب على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لتقديم تنازلات إقليمية مؤلمة في دونباس، وهي مناطق ذات أهمية استراتيجية كبرى ولم يتمكن الروس من السيطرة عليها عسكريًا حتى الآن.
وقد أثارت هذه السياسة الأميركية قلقًا عميقًا في بروكسل. فمانفريد ويبر، زعيم حزب الشعب الأوروبي، قال بوضوح إن “الولايات المتحدة لم تعد قائدة العالم الحر”، معتبرًا أن إدارة ترامب “تنأى بنفسها” عن أوروبا وتتعامل معها كطرف ثانوي.
أما رئيسة وزراء إستونيا، كريستين ميخال، فذهبت أبعد من ذلك، معربة عن عجزها عن إيجاد الكلمات لوصف تداعيات فشل الاتحاد في دعم أوكرانيا، ومؤكدة أن على أوروبا أن تُثبت لكييف أنها لن تُترك وحيدة أو تُدفع لقبول “سلام مجحف”.
في المحصلة، تكشف قمة بروكسل المقبلة عن حقيقة سياسية مقلقة: الاتحاد الأوروبي لا يواجه فقط اختبارًا ماليًا أو قانونيًا، بل معركة على استقلال قراره ودوره العالمي.
فالمشكلة لم تعد بلجيكا أو تفاصيل تقنية، بل إدارة أميركية تسعى إلى إعادة رسم ميزان القوى داخل المعسكر الغربي، حتى لو كان الثمن تفكيك وحدة أوروبا نفسها.



