رئيسيشؤون دولية

اتفاق ترامب يهدد صورة الاتحاد الأوروبي كبطل للتجارة القائمة على القواعد

وجد الاتحاد الأوروبي نفسه في مأزق دبلوماسي وتجاري حرج بعد إبرام اتفاق تجاري “هش” مع الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، اتفاق يراه مراقبون إنقاذًا قصير المدى لتجنب حرب رسوم جمركية جديدة، لكنه يهدد في الوقت ذاته مصداقية بروكسل كمدافع تقليدي عن نظام التجارة المتعدد الأطراف القائم على القواعد.

وفي 27 يوليو/تموز، توصلت واشنطن وبروكسل إلى هدنة تجارية في منتجع ترامب للغولف في تيرنبيري باسكتلندا، حيث اتفق الطرفان على:

فرض تعريفة أساسية بنسبة 15% على بعض السلع الأميركية.

خفض الرسوم على السيارات الأوروبية تدريجياً.

إلغاء الرسوم على الأدوية وأشباه الموصلات.

إعفاء صادرات الطائرات الأوروبية بالكامل من أي تعريفات إضافية.

ورغم تقديم الاتفاق باعتباره “أفضل ما يمكن الحصول عليه”، فإن الصور التي التقطت في الموقع عكست حالة ارتباك أوروبية واضحة، حيث ظهرت المسؤولة التجارية العليا في الاتحاد الأوروبي سابين وياند بملامح تعكس القلق أكثر من الرضا.

حماية أوكرانيا مقابل صفقات تجارية

يرى محللون أن أوروبا اضطرت لقبول هذه الصيغة الضعيفة خشية فقدان الالتزام الأميركي بأمن أوكرانيا. فترامب، الذي لم يُخف امتعاضه من دعم بلاده المستمر لكييف، ألمح أكثر من مرة إلى إمكانية تقليص المساعدات إذا اعتبر الأوروبيين “خصومًا اقتصاديين”.

المفوض التجاري الأوروبي السابق باسكال لامي أوضح هذه المعضلة بقوله: “كنا وما زلنا رهائن للحماية العسكرية الأميركية. لو تحدينا ترامب اقتصاديًا، لكان قادرًا على القول إنه لم يعد يرى سببًا لمواصلة دعم أوكرانيا”.

وتكمن خطورة الاتفاق في أنه يقوّض أحد أهم أعمدة السياسة الأوروبية: الدفاع عن التجارة المتعددة الأطراف وقواعد منظمة التجارة العالمية.

فالقاعدة الأساسية لمنظمة التجارة العالمية – مبدأ عدم التمييز – تنص على وجوب تمديد أي ميزة تجارية ممنوحة لشريك إلى جميع الأعضاء، إلا إذا شمل الاتفاق “جميع جوانب التجارة تقريبًا”. لكن اتفاق تيرنبيري يبقى محدودًا، ويركز على قطاعات معينة دون غيرها.

ويخشى خبراء أن يؤدي هذا التوجه إلى اتهام الاتحاد الأوروبي بازدواجية المعايير، إذ طالما قدّم نفسه كحارس للنظام التجاري القائم على القواعد، في مواجهة نهج واشنطن وبكين القائم على الصفقات الثنائية.

المحامي التجاري ماركو مولينا، الذي شارك في محادثات إصلاح هيئة تسوية النزاعات في منظمة التجارة حتى 2024، صرح قائلاً: “سيكون من الصعب جدًا على بروكسل أن تزعم الدفاع عن التعددية بينما هي نفسها تبرم اتفاقًا ثنائيًا منحازًا مع الولايات المتحدة”، مضيفًا أن ذلك يضر بالمبادئ الجوهرية للمنظمة.

أصوات أوروبية متناقضة

داخل المفوضية الأوروبية، حاول المسؤولون الدفاع عن الاتفاق بالقول إنه خطوة أولى نحو تحرير تدريجي يمكن أن ينسجم لاحقًا مع قواعد منظمة التجارة. وقال مسؤول كبير للصحفيين: “الفقرة الافتتاحية من البيان المشترك نصت بوضوح على التزام الجانبين بالتحرير التدريجي، وهذا يضمن في النهاية احترام النظام متعدد الأطراف”.

المتحدث باسم المفوضية لشؤون التجارة، أولوف جيل، أكد أن “الاتحاد الأوروبي كان وسيظل بطلاً وداعماً لمنظمة التجارة العالمية”.

لكن مسؤولين سابقين في بروكسل عبّروا عن تشككهم. إذ قال إجناسيو غارسيا بيرسيرو، الذي تولى مسؤولية العلاقات عبر الأطلسي في المفوضية حتى 2024: “مصداقية الاتحاد الأوروبي على المحك. إذا نفذنا تخفيضات جمركية على أساس تفضيلي، فسوف نفقد موقعنا كمدافع عن النظام القائم على القواعد”، محذرًا من أن الرسالة الموجهة لبقية العالم ستكون سلبية للغاية.

اعترافات أورسولا فون دير لاين

ما زاد الطين بلة، أن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين اعترفت خلال لقائها ترامب بأن الاتحاد الأوروبي يتمتع بفائض تجاري مع الولايات المتحدة، معتبرة أن الاتفاق الجديد سيساعد في “إعادة التوازن”. هذا التصريح اعتُبر بمثابة هدية سياسية لترامب، الذي أعلن سريعًا انتصاره، معتبرًا أن بروكسل أقرت ضمنيًا بعدم عدالة ميزان التجارة.

بالنسبة لإدارة ترامب، شكّل الاتفاق دليلاً على نجاح استراتيجيتها القائمة على الضغط عبر الرسوم ثم عقد الصفقات. وفي مقال رأي، كتب كبير المفاوضين التجاريين الأميركيين السابق جيميسون جرير أن ما تحقق في تيرنبيري يمثل “اللبنات الأولى لنظام تجاري عالمي جديد”، حيث يتم استبدال النظام المتعدد الأطراف باتفاقات ثنائية تحقق مصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر.

ويواجه الاتحاد الأوروبي الآن تحديًا مزدوجًا:

الحفاظ على العلاقات مع واشنطن، خصوصًا فيما يتعلق بالملف الأمني في أوكرانيا.

الحفاظ على سمعته كمدافع عن التجارة الحرة في وقت تتزايد فيه المواجهات الجيوسياسية وتتصاعد الحمائية عالميًا.

ويرى مراقبون أن أوروبا اختارت في هذه المرحلة البراغماتية السياسية على حساب المبادئ الاقتصادية، لكن هذا الخيار قد تكون له تكلفة استراتيجية باهظة إذا استمرت بروكسل في تجاهل قواعد منظمة التجارة التي كانت من أبرز مهندسيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى