أوروبا تحاول الخروج من ظل أمريكا – وتصطدم بالواقع

دفعت الهجمات اللفظية التي شنّها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على أوروبا، واصفًا إياها بـ«المتداعية» وقادتها بـ«الضعفاء»، الاتحاد الأوروبي إلى إعادة فتح ملف الاعتماد المزمن على الولايات المتحدة، والسعي الجاد لتقليصه على المستويات التجارية والعسكرية والسياسية. غير أن هذا الطموح الأوروبي المتجدد يصطدم سريعًا بخلافات داخلية عميقة تُضعف القدرة على التحرك المستقل.
ومن المنتظر أن يوقّع قادة الاتحاد الأوروبي في قمة بروكسل هذا الأسبوع على حزمة قرارات تشمل استمرار دعم أوكرانيا، وزيادة الإنفاق الدفاعي، واتخاذ خطوات لتعزيز القدرة التنافسية الأوروبية في مواجهة الولايات المتحدة والصين. لكن خلف الخطاب السياسي، تتكشف فجوة واسعة بين الرغبة في “الاستقلال الاستراتيجي” والقدرة الفعلية على تحقيقه.
في المجال التجاري، ترى قيادة الاتحاد الأوروبي أن إحياء اتفاقية التجارة المتعثرة مع تكتل «ميركوسور» في أمريكا اللاتينية بات ضرورة جيوسياسية، ورسالة مباشرة لواشنطن وبكين بأن بروكسل قادرة على تنويع شراكاتها بعيدًا عن الهيمنة الأمريكية. غير أن هذا التوجه يواجه مقاومة شرسة، تقودها فرنسا، وتجد صدى متزايدًا في إيطاليا ودول أخرى.
وتضم «ميركوسور» الأرجنتين والبرازيل وباراغواي وأوروغواي، وتمثل سوقًا ضخمة تُعد مغرية لاقتصادات أوروبية كألمانيا وإسبانيا.
وتعتبر هذه الدول أن الاتفاق فرصة استراتيجية لفتح أسواق جديدة أمام الشركات الأوروبية وتقليل الارتهان للصين أو الولايات المتحدة. إلا أن باريس ترى في الاتفاق تهديدًا مباشرًا لمزارعيها، وتخشى من تدفق منتجات زراعية أرخص قد تفجّر غضبًا اجتماعيًا في الداخل.
وقد حذر مسؤول ألماني من أن فشل التوصل إلى اتفاق في الوقت الراهن قد يعني انهيار الصفقة بالكامل، معتبرًا أن إصرار فرنسا يقوّض خطابها المتكرر حول “السيادة الأوروبية”.
في المقابل، تؤكد باريس أن موقفها لا يتناقض مع مفهوم الاستقلال الاستراتيجي، بل ينسجم معه، انطلاقًا من أولوية حماية المنتجين الأوروبيين والحفاظ على المعايير البيئية والزراعية.
ويعكس هذا الانقسام التجاري معضلة أعمق، حيث الاتحاد الأوروبي يريد تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة، لكنه عاجز عن توحيد رؤيته الداخلية.
ويتكرر المشهد ذاته في الملف الدفاعي، حيث تتزايد الدعوات لتولي أوروبا مسؤولية أمنها في ظل عدم القدرة على التنبؤ بالسياسات الأمريكية وتصاعد التهديد الروسي.
وتضغط المفوضية الأوروبية باتجاه إطلاق مشاريع دفاعية مشتركة، تشمل تطوير الطائرات المسيّرة وأنظمة الدفاع الجوي، وتجميع الموارد العسكرية.
لكن فرنسا وألمانيا، وهما أكبر قوتين عسكريتين في الاتحاد، أبدتا تحفظات واضحة، خشية أن تمنح هذه المشاريع بروكسل نفوذًا مفرطًا على حساب السيادة الوطنية.
وقد انعكست هذه الشكوك في مسودة استنتاجات القمة، التي غابت عنها الإشارة الصريحة إلى المشاريع الدفاعية الرائدة.
ورغم محاولات المفوضية طمأنة العواصم بأن السيطرة ستبقى وطنية، فإن التردد لا يزال سيد الموقف، حتى مع تزايد الاختراقات الجوية الروسية قرب حدود الاتحاد.
أما في ملف أوكرانيا، فتبرز الانقسامات الأوروبية بأوضح صورها. فالخلاف حول استخدام الأصول الروسية المجمدة لضمان قرض بقيمة 210 مليارات يورو لدعم كييف يكشف مدى صعوبة اتخاذ قرار موحد في لحظة مفصلية.
وبينما ترى بعض الدول أن الخطوة ضرورية للحفاظ على استقرار أوكرانيا ومصداقية الاتحاد، تتحفظ دول أخرى خشية التداعيات القانونية والسياسية.
ويقول مسؤولون أوروبيون إن الوقت يضيق، وإن القضايا المطروحة لم تعد تحتمل المماطلة أو الاجتماعات المطوّلة. فإما أن ينجح الاتحاد الأوروبي في تحويل شعارات الاستقلال إلى قرارات عملية، أو يبقى عالقًا في ظل الولايات المتحدة، يتحدث عن السيادة بينما تعيقه انقساماته عن ممارستها فعليًا.



