تكنولوجيارئيسيشؤون دولية

عقد سري وشركات وهمية: هكذا اشترت الإدارة الأميركية خدمات NSO التجسسية في الخفاء

أعلنت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 وقف التعامل مع شركة “NSO” الإسرائيلية، الحاضنة لبرمجية “بيغاسوس” التجسسية سيئة السمعة.

فقد اعتبر البيت الأبيض أن شركة “أن أس أو” تمثّل تهديدًا للأمن القومي الأميركي، وبعث برسالة تشدد على الشركات الأميركية وقف التعامل معها، ثمّ ألحقتها وزارة التجارة بقائمتها السوداء.

لكن خمسةَ أيّام فقط بعد هذا الإعلان، أُبرم عقد سرّي بين شركة أميركية، تعمل كـ”واجهة تغطية” للإدارة الأميركية، وشركة أخرى متفرعة من “NSO” في الولايات المتحدة.

هذا ما تكشف عنه صحيفة “نيويورك تايمز” في تحقيق مطوّل أعدّه مراسلاها في واشنطن وتل أبيب، مارك مازيتي ورونين بيرغمان، الأحد.

ويُضاف هذا العمل إلى قائمة طويلة من تحقيقات أجرتها صحف رائدة أخرى، مثل “ذا غارديان” و”لوموند” و”واشنطن بوست”، بعد مبادرة مشتركة من مختبر “سيتيزين لاب” الكندي ومنظمة العفو الدولية وجمعية “فوربيدن ستوريز”.

وفضحت تلك التحقيقات تعاون الشركة الإسرائيلية مع العديد من الأنظمة في العالم، على امتداد عدّة بلدان، شرقًا وغربًا، وفي مقدّمتها الأنظمة الدكتاتورية، في التجسس على الناشطين والصحافيين والمعارضين، ومن بينهم جمال خاشقجي الذي اغتيل في سفارة بلاده بإسطنبول عام 2018.

منح هذا العقد السري، بحسب ما يكشف معدّو التحقيق، الإدارة الأميركية أداة لتحديد الموقع الجغرافي تمكّنها من معرفة أماكن الأشخاص المرصودين عبر تعقّب هواتفهم المحمولة، من دون معرفتهم أو موافقتهم، وذلك عبر إدخال رقم الهاتف وحسب. لم تكن الطبيعة السرية للصفقة عامل الريبة الوحيد، بل أيضًا التوقيت الذي أعقب الإعلان الرسمي بأيام قليلة.

“لا يزال سارياً”

يقول معدّو التحقيق إن العقد السري، الذي يخرق السياسات المعلنة لإدارة بايدن، لا يزال ساريًّا، وهو ينصّ حرفيًا على أن “حكومة الولايات المتحدة” ستكون المستفيد الأخير من أداة التعقّب المذكورة، رغم أنه لا يعيّن بالاسم وكالة حكومية مستفيدة.

كما أتاح هذا للحكومة -كما يستطرد التحقيق- اختبار، وتقييم، وتشغيل البرمجية ضد أهداف منتقاة في المكسيك بالذات، وكان من الممكن استخدامه عبر جغرافيات أخرى، ضمنها داخل الأراضي الأميركية نفسها.

أنكر مسؤولو البيت الأبيض، لدى سؤالهم، علمَهم بالبرمجية، وقالوا إنهم “غير مطلعين على العقد، وأي استخدام لهذا المُنتج سيكون مقلقًا للغاية”، بينما رفض المتحدث باسم البيت الأبيض، ومكتب مدير الأمن القومي التعليق.

لكن بعد نشر التحقيق، أبلغ مسؤول كبير في الإدارة الصحيفة أنه لو كان ثمّة عقد في نوفمبر بالفعل يمنح الولايات المتّحدة رخصة لاستخدام إحدى منتجات شركة “أن أس أو”، فهذا يعد بمثابة “خرق للأمر التنفيذي الجديد” للبيت الأبيض.

رغم جهود إدارة بايدن لاستبعاد شركة “NSO” من السوق، فقد كان ظاهرًا، حتى قبل الكشف الأخير، انجذاب بعض الوكالات الحكومية الأميركية إلى القوّة التي توفّرها مثل تلك الأسلحة.

الصحيفة ذاتها كانت قد كشفت، العام الماضي، أن مكتب التحقيقات الفدرالي “أف بي آي” كان قد اشترى برمجية التجسس سيئة السمعة “بيغاسوس”، والتي تخترق الهواتف وتستخرج كلّ محتوياتها، من صور ومقاطع فيديو ومكالمات وتسجيلات، وغيرها.

وخلص تحقيق الصحيفة إلى أن العقد السري إيّاه، الموقع في نوفمبر 2021، استخدم “شركة الغطاء” ذاتها التي استخدمها “أف بي آي” في السابق، والمسجلة باسم “كليوباترا هولدنغز”، غير أنها في الواقع شركة مقاولة حكومية صغيرة مقرها نيو جيرسي، واسمها الحقيقي “ريفا نيتووركس”. استخدم الرئيس التنفيذي لـ”ريفا” اسمًا مزيّفًا في توقيع عقد عام 2021.

ورغم أن المستفيد الحكومي هذه المرة غير معروف، فإن شركة NSO مسؤولة أيضًا عن توقيع عقد واحد على الأقل بالنيابة عن “أف بي آي”.

ثاني الاستنتاجات التي توصّل إليها التحقيق هو أن عقد عام 2021 كان لاقتناء أداة التعقب ذاتها التي استخدمها أحد مستشاري ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ضمن حملة ملاحقة المعارضين، وهو المستشار ذاته الذي كان مسؤولًا عن ملاحقة واستدراج خاشقجي، بحسب الصحيفة، في إشارة ربما إلى سعود القحطاني الذي تم إعفاؤه بأمر ملكي بعد نحو ثلاثة أسابيع من جريمة القنصلية في إسطنبول.

البحث عن مشترٍ محتمل

بالعودة إلى العامل الإشكالي الأول المرتبط بالصفقة، وهو عامل التوقيت، وجدت الصحيفة أن الأمر لا يتعلق بالأمر التنفيذي الموقّع قبل خمسة أيام من الصفقة السرية فقط، بل بمزامنته عمليّة بيع محتملة لشركة “أن أس أو” إلى شركة دفاعية أميركية عملاقة.

تعود جذور القضية إلى عام 2019، حين استحوذ “نوفالبينا كابيتا”، وهو صندوق أسهم خاصة ومقرّه لندن، على شركة “NSO” مقابل نحو مليار دولار.

وفي ذلك الوقت، كانت سمعة الشركة الإسرائيلية تكتسح السوق لكونها تملك الأدوات الأكثر تقدّمًا في مجال قرصنة الهواتف المحمولة؛ وبذا رأى الصندوق البريطاني أفقًا واسعًا للربح في المستقبل القريب.

ولكن ملّاكه كانوا يريدون ما هو أبعد من ذلك، وفق ما تكشفه ثلاثة مصادر للصحيفة، وهو الوصول إلى السوق الأميركية، ومن ورائها أيضاً شركاء واشنطن الاستخباراتيين من “العيون الخمسة”، بريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا.

ولكن الانتقادات حول الأعمال الخبيثة للشركة، وبالذات ما اتصل بقضية خاشقجي، لم تهدأ، حتى أدرك الصندوق الاستثماري البريطاني أن اقترانه باسم “أن أس أو” أصبح ضارًا.

هنا أنشأ الصندوق شركة قابضة في الولايات المتحدة باسم “غدعون سايبر”، تحديدًا في عام 2020، وبدأ بتجريد “أن أس أو” من عدة البرمجيات الخاصة بها، وأيضاً من إدارتها الإسرائيلية، وتنصيبها تحت اسم الشركة الجديدة في الولايات المتحدة- ما يعني، في الجوهر، تحويل “أن أس أو” إلى شركة أميركية.

من هنا بدأ التفكير في بيع الشركة إلى مشترٍ أميركي يأخذ مسارات واقعية.

وقّع العقد السري بينما كان أحد تلك المسارات قيد النقاش في الأروقة الداخلية للحكومة الأميركية.

كانت شركة “أل 3 هاريس”، وهي متخصصة في تكنولوجيا الحرب الإلكترونية والمراقبة وتعمل بشكل وثيق مع البنتاغون، معنيّة بشراء “أن أس أو”، التي أصبحت في حينها تعمل تحت شعار شركة “غدعون”.

وبحسب مصادر الصحيفة، التي اطلعت أيضاً على المراسلات الداخلية بين الشركة ووزارة التجارة الأميركية، فقد وصلت المفاوضات لمرحلة متقدّمة، رغم أن البيت الأبيض كان قد وضع “أن أس أو” بالفعل على القائمة السوداء.

أربعة أشخاص مطلعون على القضية قالوا لـ”نيويورك تايمز” إن “أل 3 هاريس” تلقت “مؤشرات حذرة” من قبل مسؤولين في العديد من الوكالات الأميركية النافذة بأن تمضي قدمًا في عملية الاستحواذ.

وضغطت الشركة الدفاعية الأميركية أيضاً على وزارة الدفاع لإزالة “NSO” من القائمة السوداء، لكن الوزارة ظلّت متخوفة من مدى إمكانية وصول البرمجيات الإسرائيلية إلى المواطنين الأميركيين و/أو المصادر الحكومية الأميركية.

بعد نقاشات داخلية مكثّفة بين الشركة ووزارة التجارة، وصلت المفاوضات مع “أن أس أو” إلى مرحلة متقدّمة، إلى حد أن الطرفين وضعا مسوّدة اتفاق كانت جاهزة للتوقيع في يونيو/حزيران من العام الماضي.

لكن البيت الأبيض استبق الأمر بالإعلان عن رفض هذه الصفقة بالمطلق، وهنا لم ترَ النور.

شركات وهمية

عامل الريبة الثاني، المتعلّق بإبرام الصفقة عبر شركات وهمية متعاونة مع الحكومة، كان جليًّا بالنسبة لمعدي التحقيق. فحينما زار أحد صحافيي “نيويورك تايمز” العنوان المسجّل لشركة “كليوباترا هولدنغز” في واشنطن، وجدوا مقرًّا مغلقًا رُفع على مدخله العلم الأميركي، وشهادة مؤطرة من وحدة العمليات الخاصة، ولافتات تحذّر من أن المكان تحت المراقبة على مدار الساعة.

حينما سأل الصحافي حارس الأمن إن كان هذا مبنى شركة “كليوباترا هولدنغز”، ردّ بأنه لم يسمع بالاسم من قبل، وطلب بطاقته.

أمّا الشركة الثانية، “ريفا نيتووركس”، المموّهة داخل الشركة الأولى، والتي تبرم التعاقدات لمصلحة الجيش، فقاد عنوانها الرسمي المسجّل مراسل الصحيفة إلى منزل سكني عتيق في أحد ضواحي نيوجيرسي، وحينما دقّ الباب، لم يكن هناك من مجيب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى