تساءلت صحيفة “فايننشال تايمز” في معرض تحليلها لاتفاق مصر الأخير مع صندوق النقد الدولي الحصول على قرض جديد لمواجهة الظروف الاقتصادية، إن كان الرئيس عبد الفتاح السيسي سيأخذ الاقتصاد من يد الجيش؟.
وقال معد التقرير آندرو انغلاند إن الأزمة العالمية كشفت عن هشاشة النموذج الاقتصادي الذي تسيطر عليه الدولة وأجبرها على البحث عن قروض من جهات متعددة.
وذكر الكاتب بتعهد السيسي عندما أجبر نظامه على البحث عن قرض من صندوق النقد الدولي لمواجهة أزمة العملة الصعبة عام 2016، حين قال إنه سيتخذ القرارات التي لم يتجرأ على اتخاذها من سبقوه.
وكان يعرف أن عليه الدفع بإصلاحات حساسة سياسية ستزيد من آلالام ملايين المصريين المحرومين لكي يحصل على 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، وأكد أن على الدولة ردم الهوة بين المصادر والنفقات.
وقال في حينه “نقترض ونقترض وكلما اقترضنا أكثر كلما زادت الديون”، مضيفا أنه لن يتردد و”لو ثانية” في اتخاذ القرارات التي خاف الكثيرون من اتخاذها وعلى مدى السنين.
وبعد ستة أعوام تعتمد مصر مرة أخرى على صندوق النقد الدولي لإنقاذها من أزمة عملة جديدة، إذ وافق الصندوق على حزمة قرض بـ3 مليارات دولار.
وهذه هي المرة الرابعة التي تجبر فيها القاهرة على اللجوء إلى صندوق النقد منذ استيلاء السيسي على السلطة عام 2013، حيث أصبحت مصر السيسي تحتل المكان غير المرغوب بكونها ثاني أكبر مدين للصندوق بعد الأرجنتين.
ويبلغ مجموع الدين المصري للمؤسسات المتعددة 52 مليار دولار.
وكشف معاناة ومشاكل مصر عن تعرض الدول الفقيرة للتداعيات الناجمة عن الحرب الروسية في أوكرانيا وأدت لهروب رأس المال من الأسواق الصاعدة وتسببت بزيادة أسعار الطاقة والطعام، ورفعت كلفة الاستيراد في وقت جفت فيه مصادر العملة الأجنبية.
إلا أن الاقتصاديين ورجال الأعمال المصريين يشيرون إلى جانب آخر وأساسي غير الأمور السابقة، فالأزمة العالمية ضخمت وكشفت عن هشاشة النموذج الاقتصادي المصري الذي تدفع به الدولة.
ففي ظل السيسي، أصبحت القاهرة وبشكل متزايد تعتمد على الأموال السريعة “الساخنة” لدعم الدين المحلي وتمويل العجز في الحساب الجاري في وقت واصل فيه المصرف المركزي بدعم الجنيه المصري وحافظ على سعر الفائدة في خانة العشرات. وكانت النتيجة أن القاهرة ظلت وحتى وقت قريب تدفع أعلى معدلات فائدة حقيقية على دينها.
وفي الوقت نفسه، اعتمد السيسي على الجيش لدفع النمو حيث كلفه بتنفيذ عدد من مشاريع البنية التحتية وشجعه على توسيع بصماته في عدد من القطاعات، من إنتاج الباستا إلى الإسمنت والمشروبات، وزاحم القطاع الخاص وأبعد الاستثمار الأجنبي المباشر.
والمشكلة هي أن الأموال الساخنة استخدمت للإنفاق على مشاريع ضخمة معظمها بيد الجيش الذي امتص كل العملة الأجنبية.
والسؤال الحالي الذي طرحه رجال الأعمال والمحللين إن كانت أزمة الستة أشهر كافية لدفع السيسي كي يتخذ القرار الأصعب ويحدد دور الجيش في الاقتصاد.
ويرى الاقتصاديون أن هذا قرار مهم إن أريد للقطاع الخاص الانتعاش ولاجتذاب البلد استثمارات أجنبية مباشرة وجلب عملية أجنبية مستدامة.
وقال صاحب مصلحة “نريد التوقف عن النزيف”، ومثل غيره ممن تحدث معه الكاتب، رفض الكشف عن هويته خشية التداعيات، “لو مضينا بهذا الطريق فستقود إلى نادي باريس ( لتخفيف الدين) للقيام بعملية قص وبيع أصول وإفلاس الدولة”.
ويأمل بعض رجال الأعمال من استفاقة الحكومة المهتزة على الوضع وتكتشف الطريق المحفوف بالخطر التي تمضي به.
وقال مدير تنفيذي آخر “قد تكون نعمة مخفية”، مضيفا “هناك إجماع وفهم بضرورة تغير الأمور لأنه لا يوجد أي حل آخر”.
ويخشى آخرون من تداعيات أي قرار يتخذه قائد الجيش السابق ضد قاعدة دعمه ويخفض من أثر المؤسسة العسكرية على الاقتصاد وكل المرتبطين به.
وقال صاحب مصلحة “سيكون أمرا صعبا” و”تعطي طفلا لعبة ولكن كيف ستأخذها منه؟ وتحتاج لشجاعة كبيرة لكي تأخذ من الجيش ما أعطيته وأنا قلق. ولو اعتقد أن خصخصة القطاع العام صعب فماذا عن مصنع للجيش؟”.
ويقول جيسون توفي، من “كابيتال إيكونوميكس”، إن “الجيش لن يتخلى عن مصالحه سريعا، وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن الجيش قريب من السيسي، وربما وضع الضغوط عليه لو شعر أن مصالحه باتت عرضة للخطر”.
ويرى مايكل وحيد حنا من مجموعة الأزمات الدولية أن تخفيف دور الجيش بحاجة “إلى إعادة تشكيل وتنظيم للاقتصاد” و”هذا أمر صعب”.
ورد النظام سريعا على غزو روسيا لأوكرانيا في شباط/فبراير حيث شكل “لجنة أزمة” تجتمع أسبوعيا للتأكد من الأمن الغذائي لمئة مليون نسمة، عشرات الملايين منهم يعتمدون على الخبز المدعم.
وأمر الجيش بتوزيع ملايين من رزم الطعام بأسعار مخفضة للعائلات الفقيرة وحاول المسؤولون تنويع مصادر استيراد القمح من الدول المصدرة له.
وقبل الغزو اعتمدت مصر على القمح الروسي والأوكراني بنسبة 80% مما جعلها الأكثر عرضة لارتفاع أسعار المواد الأساسية ونقصها.
وقالت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جيورجيفا في آذار/مارس “أنا قلقة حول مصر”.
ولم يأت كعب أخيل من الأمن الغذائي بل من سحب مدراء الصناديق الأجنبية حوالي 20 مليار دولار من الدين المصري في شباط/فبراير و آذار/مارس مما أدى لأزمة العملة الأجنبية.
ودهش السيسي الذي قمع أي المعارضة عندما اكتشف ضعف النظام، حسب أشخاص اطلعوا على الإحاطات المقدمة له.
وفي 8 آذار/مارس ركب الطائرة وسافر إلى السعودية، واحدة من داعمي مصر التقليديين، وفي نهاية الشهر أودعت الرياض 5 مليار دولار في المصرف المركزي، وكان ذلك جزءا من حزمة إنقاذ حيث أودعت الإمارات 5 مليار دولار وقطر 3 مليار دولار.
وقال مصرفي مصري “خفت التفكير” بما سيحدث لو لم تسارع دول الخليج إلى مساعدة مصر “كان السيسي غير سعيد وفوجئ بحجم الهشاشة في النظام المالي”.
والتزمت الدول الخليجية الثلاث باستثمار مليارات الدولارات والاستحواذ على أصول مالية في شركات الدولة من خلال صناديقها السيادية.
وأنفقت هيئة الاستثمار العام السعودية وصندوق أبوظبي السيادي إي دي كيو 4 مليار دولار للحصول على حصص في الشركات المصرية، بما فيها بنك وشركات كيماوية وأسمدة ولوجيستك وتكنولوجية.
وفي نفس الشهر قدمت القاهرة طلبا للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار والذي تم التوصل إليه الأسبوع الماضي.
ومن المتوقع حصول مصر على قروض بقيمة 5 مليار دولار من جهات متعددة ومانحين في المنطقة بالعام المالي الحالي.
ويعترف المسؤولون في الحكومة أن الأزمة هي صيحة تحذير، فقد كان هدف الحكومة “فتح الاستثمار الأجنبي المباشر” حسب قول مسؤول و”ربما شعر الناس بالتهاون ولم يطبقوا الخطة بطريقة مناسبة”.
وقال مصرفي: “هل تعلمنا من هذا الدرس؟ نعم وفهم الناس في المصرف المركزي أنها أموال لا تأتي بسهولة” وأضاف “شعوري أن الناس في القمة فهموا التحدي وأننا نفرط في الإنفاق وبفترة قصيرة”.
والامتحان الحقيقي هو فيما إن كانت الحكومة ستعالج الدور المهمين للدولة وتحديدا الجيش على اقتصاد البلد.
ويرى اقتصادي مصري أن المشكلة الأساسية هي أن مصر تعيش أكثر من قدراتها و”ما تنتجه وتبيعه لبقية العالم هو أقل مما تستورده والذي تموله عبر الدين”.
ويضيف أن معظم استهلاك الدولة يأتي خارج الميزانية وعلى شكل استثمارات الجيش و “لو نظرت إلى الكثير من هذه المشاريع العملاقة فهي من تمويل الجيش وهم يضيفون لفاتورة الاستيراد ويسهمون في خروج الدولارات”.
ومن الناحية الخطابية عبرت القيادة عن استعداد للتغيير، ففي مؤتمر اقتصادي عقد هذا الشهر، قدم السيسسي رسائل مزيجة دافع فيها أمام المسؤولين عن سجله في حماية الاقتصاد واستعداده لتخفيف دور الدولة فيه.
وقال إنه حل مشكلة الموانئ والبنى التحتية للدولة وبعدة طرق و”المسار الذي تقترحونه هو منح المشاريع للقطاع الخاص ومنحه للأجانب فلا مانع لدي ولكن لا وقت عندي لتضييعه”. وحلف بالله أن كل شركات الدولة بما فيها شركات الجيش هي للبيع.
وقبل شهرين، أقال السيسي طارق عامر حاكم المصرف المركزي المسؤول عن الأزمة حسب الكثيرين.
وقال مدير تنفيذي “الحاكم كان مقربا من الجيش ويستجيب لكل ما يريده الجيش وبدون شروط”.
ووعد البنك المصرفي منذ خروجه بنظام مرن للصرف وهو المطلوب وقال إن حزمة القرض مخصصة للقيام بإصلاحات بنيوية وفي أسلوب الإدارة ومساعدة النمو بقيادة القطاع الخاص وتوفير فرص العمل.
وفي نيسان/إبريل أعلن السيسي أن الحكومة ستقوم بحملة جمع 40 مليار خلال الأربعة أعوام المقبلة من خلال بيع أصول الدولة وستبدأ ببيع أصول شركات مملوكة من الجيش في السوق المالي “قبل نهاية العام”.
ودعا في نفس الخطاب للحوار مع الشباب والأحزاب السياسية وهو تحرك مفاجئ من رئيس سجن عشرات الآلاف وقمع حرية التعبير والمعارضة.
وقال حنا من مجموعة الأزمات الدولية إن الحوار وإن كان محدودا في طبيعته لكن النظام يقوم بعمل لم نره يقوم به من قبل، مشيرا إلى “الكثير من الشك والإحباط وأنه عبارة عن علاقات عامة” و”لكنه تعبير عن حقيقة وجود ضغوط. ويعترفون أن هذه اللحظة مختلفة وعليهم الرد عليها بشكل مختلف”.
وتعمل الحكومة على وثيقة أملاك الدولة والتي ستنظر في القطاعات بما فيها الجيش والتي يجب تقليل فيها دورها أو سحبه. وفي حوار الحكومة مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ورجال الأعمال تعهدت بزيادة دور القطاع الخاص إلى نسبة 65% خلال السنوات الماضية، وفي الوقت الذي وعد فيه السيسي ببيع أصول تابعة للجيش إلا أن الكلام لم يقرن بالفعل بعد.
وقال حنا “إنه أمر يصعب تفكيكه وهو في حس تراجع أيديولوجي ضخم”، فقد زاد دور الجيش أثناء حكم السيسي وتوسع دوره في الاقتصاد وأدى لرابحين في داخله من قادة الجيش بحيث خلق نوعا من الرعاية.
واعتمد السيسي على الجيش كمحرك لخطته الاقتصادية. وحصلت حكومة السيسي عام 2016 على مديح صندوق النقد الدولي والمصرفيين نظرا لدفعها برفع الدعم عن الوقود وتخفيض فاتورة رواتب القطاع العام.
لكن النظام لم يفعل الكثير لتحسين مناخ الاستثمار في بلد عانى من البيروقراطية والفساد ونقص الخدمات اللوجيستية. وبدلا من ذلك مضى السيسي
في مشاريعه الكبرى بقيمة 400 مليار دولار من أجل ما أسماه “الجمهورية الجديدة”.
ومع تحول الدولة من بوليسية إلى بلد يحكمه العسكر توسعت يد الجيش إلى معظم قطاعات الصناعة والزراعة. وسجل الاقتصاد نموا عاليا، لكن الاقتصاديين حذروا أن هذا النمو دفعه البناء والعقارات والطاقة، ففي الوقت الذي كانت فيه بعض مشاريع البنية التحتية ضرورية إلا أن الأخرى كانت للتفاخر والتباهي لم يكن الاقتصاد قادرا على تحملها.
وزادت معدلات الفقر بعد خسارة الجنيه قيمته وبقي الإستثمار في القطاع الخاص في أدنى معدلاته. ورغم ترحيب رجال أعمال بانقلاب السيسي وأنه عودة للحياة الطبيعية إلا أنهم اعتقدوا أنه دخل الحكم بنظرة احتقار للقطاع الخاص.
ومع توسع دور الجيش في الاقتصاد هرب المستثمرون الأجانب وتقلص دور القطاع الخاص.
ولم تكن المشكلة في دور الجيش لكن بخوف الكثير من رجال الأعمال من التنافس مع مؤسسة قوية تملك معظم أرض الدولة وتعتمد على المجندين في مشاريعها ولا تدفع الضريبة.
وحتى لو كان النظام جادا في بيع الشركات التي يملكها الجيش رغم مصاعب العثور على مشتر لها، إلا أنها ليست الحل لمشاكل مصر الاقتصادية والاجتماعية ومواجهة الضغوط الديمغرافية، بحوالي 60 مليون مصري يعيشون تحت خطر الفقر أو أعلى بقليل منه.
وكانت أولوية النظام في السنوات الأولى هي الحفاظ على الاستقرار وقمع أي معارضة ومنع تكرار لانتفاضة عام 2011 التي أطاحت بحسني مبارك.
ومن شهد الانتفاضة هذه يخشى من تكرار الفوضى وعدم الاستقرار، إلا أن هذه المشاعر قد تتلاشى بسبب زيادة الضغوط المعيشية فـ”الجيل الجديد من الشاب في سن 18 و19 و20 لا يتذكرون الثورة ولا يعرفون عن الفوضى، وعليه عندما تخبت الذاكرة الجمعية مع مرور الوقت هناك من سيتجرأ على حرف القارب عندما يزداد الفقر” كما يقول اقتصادي.
ويجب أن يدفع هذا النظام للتحرك، لكن هناك من يشعر أن مصر مهمة جيوسياسيا ولا يسمح لها بالانهيار لكي تظل معتمدة على حزم إنقاذ من جيرانها.